محمد الحبيب يونس: البلبسة كحتمية نسق اجتماعي وثقافي. - صوت الوحدة

محمد الحبيب يونس: البلبسة كحتمية نسق اجتماعي وثقافي.

​تحليل ظاهرة البلبسة في السودان: كحتمية أفرزها النسق الثقافي للمجتمع.

مما لا شك فيه أن الإنسان عبارة عن مجموعة معتقدات أو بعبارة أخرى هو حصيلة خطابات وأنساق ثقافية معينة، وكما قال زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
ولم تبق إلا صورة اللحم والدم..
فالإنسان كنوع يتمايز عن الحيوانات في كونه فكرا ناتجا عن محمولات معرفية وثقافية واجتماعية أضف إلى ذلك الشفرات الجنية التى تسبق المعرفة.
بناءً على هذا المفهوم، يمكننا تسليط الضوء على ظاهرة (البلبسة) أو داعمي الحرب في السودان من منظور ميتاسياسي، حيث لم تكن الأسباب السياسية والمنطقية وحدها كافية لتفسير هذا التطرف في حب الدمار والحرب والتحريض على اشغالها والحرص الشديد على استمرارها.
ومن ثم كان لابد من الحفر أعمق أي تحت المنطق والتفتيش عن الأسباب النفسية والذاتية التي جعلت هؤلاء يقفون موقفهم هذا ولأن هذا الموقف ليس فرديا بل يمثل جماعة أو مجتمعات بعينها كان علينا أن نقارب ثقافة هذا المجتمعات وسردياتها وخطاباتها التي صاغت عقلها الجمعي…

​إن ظاهرة البلبسة ليست مجرد موقف سياسي أو وليدة حدث عابر، بل هي حتمية نسق اجتماعي وثقافي. فبعد الصراع الذي دار بين سكان الشمال وأذياله من جهة الخليفة عبدالله من جهة أخرى، نات نشأت سرديات وخطابات ناتجة عن تلك الأحداث وهي سرديات مشحونة بالكراهية تجاه غرب السودان. هذه السرديات زاد عليها الخيال الشعبي كثير وهي تختزل إنسان الغرب في صورة (العدو الحاقد الذي همه الأول والأخير تدمير الشمال والوسط) وكما خلقت تلك السرديات خرافات حول أهل غرب السودان، مثل تحولهم إلى حيوانات أو أكلهم للبشر.
​لقد شكلت هذه الأفكار (الوعي الجمعي) لسكان الشمال والشرق والوسط و وموقفهم الكاره و المتخوف دوما من الغرب أو ما يمكن تسميته بـ(الغربوفوبيا) لدى سكان تلك المنطقة. فهم يعيشون دائمًا في وهمِ وجودِ مؤامرة تُحاك ضدهم من قبل غرب السودان وكخطوة استباقية يقومون بافتعال الحروب ، فهم لا يثقون في الآخر، ولأنهم ورثوا السلطة حافظوا عليها بإقصاء انسان الغرب وعدم السماح بأن يكون له وجود فعلي في السلطة. هذه الكراهية والخوف المتوارَثانِ، والمترسخانِ في الثقافة المحلية، يفسران الكثير من المواقف العدائية سواء كانت عداء بشكل مادي أو عنف رمزي ، فهي انعكاس فعلي للسرديات و للمقولات الشعبية هناك كالمثل الذي يقول : “البجي من الغرب ما بسر القلب” .
​البلبسة المقصودة هنا ليست البلبسلة المدفوعة الأجر كبلبسة الحركات المسلحة ولا البلبسة التي نابعة من الخوف من صنم الدولة
بل ما أعنيه ب​البلبسة هنا ليست البلبسة هي بلبسة النخب وأتباعهم. إنها نتاج الخوف من أن يكون للغرب وجود فاعل في السلطة، وكراهية عمياء تجاهه. هذه الكراهية ليست ناتجة عن رؤية واقعية أو أسباب منطقية، بل هي كراهية غامضة لا يستطيع حتى أصحابها تفسيرها، لأنها تنبع من تراكمات تاريخية وحكايات شعبية ومقولات قديمة لا تزال جذوتها مشتعلة.
​هذا (الوعي الدفاعي) يخشى تكرار السيناريوهات القديمة، لذلك حصّن نفسه من “الآخر الغرابي” بسرديات خيالية وظالمة. لقد احتفظت ذاكرة النهر بأحداث الماضي، وهذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي هو أن تحتفظ بعاطفة الكراهية لأكثر من قرن، وتجعل منها واحدة من أهم السرديات الكبرى التي تشكل رؤية النهري لنظيره الغرابي.
​فمنذ نعومة أظافره، يجد الشخص من هذه المناطق نفسه في حتمية نسقية تجعله معادياً للغرب. المقولات الثقافية، سواء كانت صحيحة أو مزيفة، تشكل موقفاً من الكراهية لا يمكن الفرار منه، لأن النسق الثقافي يعمل كالمسلمات والثوابت، ويُزرع في الإنسان منذ الصغر، ولا ينجو منه إلا من يتمرد عليه ويمنح نفسه فرصة التعرف على “الآخر” دون أحكام مسبقة.
​الحرب ودوافعها الحقيقية
​إن البلابسة هم نتاج هذا النسق الثقافي والخطاب القديم. فكل المعطيات تشير إلى أن المصلحة الوطنية تقتضي إنهاء الحرب، ولكن البلابسة لا يرون هذه المخاطر لأن خطرهم الأكبر هو الدعم السريع، الذي خرج عن سيطرتهم وأصبح قوة لها تأثيرها في المشهد السياسي السوداني. فلو كان الدعم السريع على حاله السابق، لما تخوفوا من وجوده، لكن تطور رؤيته السياسية وسعيه مع وطنيين آخرين لحل شامل للأزمة السودانية، جعل النسق الثقافي الجهوي يدافع عن نفسه بالدعوة للحرب والترويج لها، وإقحام الجيش في صراع مع الدعم السريع للقضاء عليه، كونه يمثل غرب السودان.
​إن هذا التطرف في الحرب، من أكل للحوم البشر، وحرق للأحياء، ونبش للقبور، وقصف للقرى، يبرهن على أن دوافع الحرب، وإن تغطت بالسياسة والحجج المنطقية، إلا أن باطنها ليس كذلك. إنها تحمل في أعماقها دوافع أقوى وأرسخ جذورًا من السياسة، وهي العنصرية والجهوية.
​لقد أدى استهداف الجيش لمواطني غرب السودان بالاعتقال والتصفية، بالإضافة إلى الخطاب العنصري الصادر عن داعمي الجيش وبعض ممثليه، إلى أن يدرك مواطنو الغرب أن الحرب ليست ضد الدعم السريع فقط، بل هي ضدهم. ونتيجة لذلك، سارعوا للانضمام لصفوف الدعم السريع حفاظًا على وجودهم.
​هذه العقلية الجهوية لم تتجلّ فقط في الحرب الحالية، بل ظهرت أيضاً في عهد حكومة حمدوك، تحت مسميات مختلفة، مثل الزحف الأخضر وتيار أنصار الشريعة وناس الحل الجذري والشيوعيين وغيرهم ورغم اتخاذها أسباباً دينية أو سياسية، إلا أنها كانت مجرد غطاء للمخاوف الحقيقية من كون حمدوك ينحدر من غرب السودان.
​لا يمكن القول إن كل سكان النيل هم “بلابسة”، فهذا ظلم كبير. لكن ما يجب الإشارة إليه هو وجود نسق ثقافي غير قومي يختزل أهل الغرب في صورة وحشية، ويربي الأجيال على معاداتهم. وتختلف استجابة الناس لهذا النسق، فمنهم من يتأثر به بشدة، ومنهم من لا يقع ضحيته، ومنهم من يتمرد عليه.
​هذا المقال ليس دعوة لإيقاد الفتنة، فالفتنةوموجودة سلفًا بل هو محاولة جريئة لكشف الأسباب الحقيقية للتشتت والفرقة في الواقع السوداني من قبل الحرب الحالية إلى اليوم، على أمل إيجاد حل لهذه الظاهرة. إن حل المشكلة يبدأ بفحصها بشكل سليم وعرضها بجرأة، دون مواربة، حتى يتم علاجها من جذورها.
​نحن اليوم في أمس الحاجة لاستئصال الجهوية والعنصرية ومحاربتهما. وهذا الاستئصال لا يتم بين ليلة وضحاها، بل هو عمل جماعي يبدأ من أصغر نظام اجتماعي (الأسرة)، وصولاً إلى مكونات المجتمع الأخرى مثل القبيلة والجغرافيا، ودون إغفال دور وسائل التعليم والإعلام. يجب أن تتضافر كل هذه الجهود لخلق بيئة سودانية معافاة من كل أمراض العنصرية والجهوية.

إرسال التعليق

لقد فاتك