النور حمد : هل سنقايض إيقافَ الحربِ بخسارةِ الثورة؟ - صوت الوحدة

النور حمد : هل سنقايض إيقافَ الحربِ بخسارةِ الثورة؟

ورد ضمن ما كتبته في مقالي السابق: “ما ينبغي أن يقوم به تحالف تأسيس، هو عدم المساومة، على الإطلاق، في مهمة القضاء التام على كل ركائز دولة الإخوان المسلمين الموازية، وإعادة الدولة السودانية إلى حالة العافية المؤسسية، التي كانت عليها بُعِيْد الاستقلال”. لكن، وللأسف، طابق بعض الإخوة الذين كتبوا أو تحدثوا معقبين على ما كتبت، بين مقالتي هذه وبين خطرفات جماعة “بل بس”. وعدَّوني من ضمن أهل هذه التيار الذين يرفعون هذا الشعار الغوغائي. وهي، في نظري، مطابقةٌ لا تخلو من قدرٍ من التجنِّي، رغم سلامة النية لدى بعض من أنتقدوني. وأعتقد أن العجلة، ومجانبة الفهم الصحيح لعموم مقصدي، هو ما قاد إلى هذا التَّجنِّي. فكل من وقف مع ثورة ديسمبر يعلم أن المهمة الثورية الأساسية، التي شرعت لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واستعادة الأموال العامة وإزالة التمكين في القيام بها، كانت تهدف، بصورةٍ أساسية، إلى: “القضاء التام على كل ركائز دولة الإخوان المسلمين الموازية، وإعادة الدولة السودانية إلى حالة العافية المؤسسية”. فإن أخفقت الثورة، في نهاية مطافها، طال الزمن أم قصُر، في تحقيق هدفها المركزي هذا، فإنها تصبح ثورةً بلا معنى، وتكون تضحيات شهدائها، وكلُّ دمٍ، وعرقٍ، ودموعٍ سُكبت فيها، قد راحت هدرا.
الحقيقة العملية الماثلة الآن تقول: إن الثورة السلمية قد أخفقت عمليًا، في تفكيك “دولة الكيزان” وفي استعادة المؤسسية للدولة الأم. وفي تقديري، أن الثورة لن تفلح في استعادة وهجها ودفقها، مرةً أخرى، عن طريق الاعتماد على الحراك السلمي وحده، مثلما جرى من قبل، وأدَّى إلى الإطاحة بالرئيس البشير. فذلك أمرٌ أضحى الآن غير ممكنٍ من الناحية العملية. لقد مارست جماهير الثورة مسلكا سلميًا متمدِّنًا، غاية التمدُّن، لكنه قُوبل على مدى ست سنواتٍ بقمعٍ وحشيٍّ مفرط، باستخدام مختلف الأسلحة النارية ضد المدنيين العُزَّل، وبالمعتقلات، وبالتعذيب الوحشي، وبالإخفاء القسري، بل وبالاغتصابات، دون أدنى شفقةٍ أو رحمةٍ، أو مراعاةٍ لحرمةٍ الدم البشري، أو الكرامة الإنسانية. بعبارةٍ أخرى، لقد أثبتت التجربة الطويلة، منذ اندلاع الثورة، أن البرهان وقادة جيشه المؤدلج لا همَّ لهم سوى نهب خيرات البلاد، وبيع أراضيها، والخضوع بالكامل للإرادة المصرية من جهة، وللإخوان المسلمين، من الجهة الأخرى. فحرصهم على الاحتفاظ بالسلطة نابعٌ من حرصهم على حماية ما نهبوه، وكذلك، لحماية أنفسهم من المساءلة الجنائية. وهاهو البرهان، قد وقف قبل أيامٍ أمام معبد أبادماك، بمنطقة النقعة الأثرية، جنوب شرقي مدينة شندي، مؤكِّدًا على مواصلة الحرب، حتى النهاية، مهما كلَّف ذلك. قال البرهان، “مهما كلف ذلك”، في حين أرسل هو وزمرته من جماعة “بل بس”؛ من عسكريين رسميين، وبراءين، وإخوان مسلمين، أسرهم، إلى تركيا ومصر ودول الخليج وغيرها، قبل إشعالهم الحرب. فكامل كلفة الحرب؛ من فقدانٍ للأقارب والأعزاء، وفقدانٍ للأموال والممتلكات، ومن تشرُّدٍ وجوعٍ وأوبئة، حصنوا منها أنفسهم، ووضعوا كامل الكلفة على كاهل الشعب الأعزل المستضعف.
لقد أغلقوا الباب أمام السلمية
حاولت الثورة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 سلميًا، عن طريق استخدام القانون المستند على الشرعية الثورية، وفقًا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية لعام 2019. وهي وثيقةٌ شهد العالم بأجمعه على شرعيتها. لكن، لم يترك قادة الجيش الإخواني لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو لكي تقوم بعملها. فقد كان رئيس هذه اللجنة، وللغرابة، الشديدة، هو الفريق ياسر العطا. ويعني هذا أننا أوكلنا تفكيك البنية الطاغوتية الناهبة لموارد البلاد، لواحدٍ من أكثر أساطينها ودهاقنتها شراسةً وتطرفا! وليقارن، الآن، الذين لم يعوا الدرس بعد، بين ياسر العطا الذي جعلنا منه، عقب توقيع الوثيقة الدستورية في عام 2019 رئيسًا للجنة إزالة التمكين، وبين ياسر العطا الذي ظهر على حقيقته في هذه الحرب، وهو يطلب من القائد العام الإذن باستخدام القوة المميتة، التي تعني استخدام الأسلحة الكيماوية والجرثومية. ويبدو أن القائد العام استجاب له، فقام باستخدمها بالفعل. وهو أمرٌ أثبتته التقارير الدولية المستقلة، والعديد من الشهادات التي قدمها المواطنون.
ياسر العطا حصان طروادة
لم يكن ياسر العطا ، في حقيقة الأمر، سوى حصان طروادة الجيش وتنظيم الإخوان المسلمين الذي جرى إيداعه داخل تلك اللجنة. ولذلك، ما أن اقتربت لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الأموال العامة من مركز عش الدبابير المالي، بادر ياسر العطا، في فبراير 2021، بالاستقالة من رئاستها. لكنه لم يفعل ذلك، إلا بعد أن سرَّب للجيش الإخواني ولتنظيم الإخوان المسلمين، كل أسرار اللجنة، وكل ما تنوي فعله. وقد أتاحت لهم تلك التسريبات إخفاء الكثير من الأموال المنهوبة، ودفعت بهم إلى التعجيل بالانقلاب على الثورة ووثيقتها الدستورية في 25 أكتوبر 2021. ولا نزال حتى هذه اللحظة نعيش تحت نير هذا الانقلاب اللعين، الذي لم يكتف بمجرد الانقلاب، وإنما اتجه إلى إشعال حربٍ شاملة أحرقت البلاد برمتها، وقتلت مئات الآلاف، وشرَّدت الملايين، ومنحت مثلث حلايب للمصرين. كما منحتها، إلى جانب ذلك، كامل مقاولة إعادة الإعمار، وبصورةٍ حصريةٍ، دون منافسةٍ مع أي جهة. لقد جعلت عصابة بورتسودان من مصر مالكَا حصريًّا لثروات السودان. وبناءً على هذا، قامت مصر من جانبها، وبموافقة البرهان وعصابته، بجعل الموانئ المصرية، المنفذ الوحيد لصادرات وواردات السودان. وقد تذرَّعت مصر في ذلك بالعزلة الدولية المفروضة على السودان. في حين أنها هي التي هندست تلك العزلة منذ عقودٍ، وباتقانٍ شديد،ٍ لتضع السودان، بكامله، تحت هيمنتها الكاملة، الشاملة، المستدامة. ويشهد على هذه الهندسة الدءوبة الماكرة، سجلُّ تصويتِها المتكرر، في الأمم المتحدة، ضد رفع العقوبات عن السودان.
مقايضة إيقاف الحرب بخسارة الثورة
هناك طريقان لإيقاف الحرب الكارثية الجارية الآن، لا ثالث لهما. الأول: عن طريق التفاوض وفقًا لأهداف ثورة ديسمبر المجيدة المتمثلة في: خروج الجيش من السلطة، ومن ممارسة السياسة، بصورةٍ نهائيةٍ وحاسمة، وتفكيك كل المليشيات وإنشاء جيشٍ سودانيٍّ مهنيٍّ واحد. وكذلك، ابتعاد هذا الجيش الجديد عن إدارة الأنشطة الصناعية والتجارية التي لا علاقة لها بالصناعات الحربية. وحتى تلك، فإنها ينبغي أن تقوم بناءً على الميزانية التي يقرها المجلس التشريعي، تحت سلطات وزارة المالية، والخضوع الكامل لسلطات المراجع العام. أما الطريق الثاني، في حالة رفض الجيش وتنظيم الإخوان المسلمين لهذه الشروط، فهو مواصلة الحرب التي سيجبرونك على مواصلتها، بإصرارهم هم عليها. ولابد من القول هنا، أن امتلاك قوى الثورة لخطين: أحدهما سياسي تفاوضي والآخر عسكري، كما هو الحال لدى تحالف تأسيس، أصبح أمرًا لا مندوحة منه. فالتفاوض يعتمد على أن تكون للمفاوض بطاقة ضغطٍ عسكريةٍ متَّسمةٍ بالمرونة، وأن تكون له، إلى جانب ذلك، سيطرةٌ على الأرض. ولو كانت السلمية وحدها كافيةً لما جرى الانقلاب عليها. كما أن المجتمعين الدولي والإقليمي تقاعسا عن حمايتها حين جرى انتهاكها. وهكذا جرى إخراج السلمية من الملعب.
حكومة بورتسودان هي حكومة أمرٍ واقعٍ، قامت على انقلابٍ على الشرعية الدستورية التي مثلتها الوثيقة الدستورية. ولا مناص، والحالة هذه، من أن تقوم في مقابلها حكومة أمرٍ واقعٍ أخرى لتنازعها شرعية الأمر الواقع التي تتعيَّش عليها. فإذا لم تقم في مقابلها حكومة أمر واقعٍ أخرى، فسوف لن تلبث حكومة الأمر الواقع هذه، في بورتسودان، أن تصبح هي الحكومة الشرعية. لذلك، لابد من وجود حكومة ذات ذراعٍ سياسيٍّ وآخر عسكريٍّ متجسِّدٍ على أرض الواقع لينازعها شرعية الأمر الواقع، التي تلعب على عنصر الوقت لتجعل من شرعيتها الزائفة تلك، شرعيةً حقيقيةً، معترفًا بها دوليا. فحين يُرهق المجتمعان الدولي والإقليمي من الحرب ومن استطالة فظائعها ومآسيها، ولا يجدان على أرض الواقع غير سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، فإنهما سيضطران إلى اعتمادها سلطةً شرعية. هذا ما تراهن عليه عصابة بورتسودان.
لن يفاوضوا إلا من يحمل السلاح ويُمسك بالأرض
لقد ظل الإخوان المسلمون وجيشهم يغازلون قوات الدعم السريع لإيقاف الحرب، عارضين تقاسم السلطة معه. ومن ثم طمر الثورة وأهلها تحت التراب. (راجعوا: حديث سناء حمد مع أحمد طه). غير أن قوات الدعم السريع لم تستجب لهذه المغازلة وبقيت ثابتةً مع الخط الذي أعلنته منذ قبولها بالاتفاق الإطاري، وتوقيعها على ميثاق ودستور تحالف تأسيس. باختصارٍ شديد، دعوتي ليست دعوة جماعة “بل بس”، وإنما دعوةٌ لتغيير التكتيك وفق ما تقتضيه المرحلة. إن المناداة بإيقاف الحرب من غير مناقشةٍ للكيفية والأسس التي ينبغي أن تقف وفقها يعني، من الناحية العملية، التنازل للجيش وللإخوان المسلمين عن الثورة، بصورةٍ نهائية. وهذا هو ما أراده الجيش والإخوان المسلمون وأجهزتهم الأمنية من وراء إشعالهم هذه الحرب. لقد عمدوا إلى أن يُفقدوا الناس أمنهم الشخصي، ومساكنهم، وأعمالهم، وأن يتشرَّدوا، ويهيموا على وجوههم، وأن يفقدوا الأمل، حتى ينخفض سقف مطالبهم، فينحصر في مجرد الدعوة إلى إيقاف الحرب. إن إيقاف الحرب مطلوبٌ بشدة، فقد ذاق منها الشعب الأمرين. لكن، إذا وقفت الحرب والبرهان وكيزانه مسيطرون فلا يحلمنَّ حزبٌ سياسيٌّ أو ناشطٌ مدنيٌّ، أو تنظيمٌ مهنيٌّ، بفرصةٍ أخرى لاستعادة الثورة. ستحدث تصفيةٍ شاملةٍ لكل من وقف معها ودعمها مثلما جرى في مجازر إندونيسيا في ستينات القرن الماضي. وتجري هذه المجازر الآن في الخرطوم، منذ إعادة السيطرة عليها. أكثر من ذلك، فإن السودان برمَّته، أو جزءًا منه، سوف يجري إلحاقه بمصر.

إرسال التعليق

لقد فاتك