كاربينو يكتب : هياكل الإدارة المدنية ركيزة التأسيس وبوابة الانتقال - صوت الوحدة

كاربينو يكتب : هياكل الإدارة المدنية ركيزة التأسيس وبوابة الانتقال

في لحظة مفصلية تعاد فيها هندسة المسار الوطني وتُبنى اللبنات الأولى لحكومة وُلدت من رحم معاناة طويلة وتوق شعبي للتغيير، تلوح الحاجة إلى تأصيل الفعل المؤسسي بوصفه نقطة الارتكاز الأكثر واقعية وقدرة على ترجمة الأهداف الكبرى إلى نتائج ملموسة ، وفي هذا السياق تبدو هياكل الإدارة المدنية القائمة اليوم كأرضية صلبة لا فقط بوصفها أجهزة تنظيمية، بل لأنها احتفظت وسط الانهيار بجذوة البقاء وذاكرة الدولة ، لقد تحركت هذه الهياكل بإرادة فردية وجماعية في ظروف غابت فيها مقومات العمل، وفُرض الواقع على عناصرها أن يخلقوا من اللاشيء نواةً لنظام ظل يعمل وإن ببطء، لكنه صمد حين انهارت مؤسسات كثيرة.

أغلب شركاء حكومة التأسيس موجودون خارج البلاد وكوادرهم برغم امتلاكها لرؤى سياسية، تفتقر في مجملها إلى الخبرة التنفيذية أو الارتباط الحي بتفاصيل الواقع المحلي وتشابكاته المعقدة ، هذه الفجوة بين الموقف السياسي والممارسة التنفيذية تتطلب معالجة واقعية تبدأ من الموجود لا من المخيال، ومن الخبرة الفعلية لا من التصورات الذهنية لذلك فإن الانطلاق من البنى الإدارية الحالية، وتطويرها من الداخل، يُعد الخيار الأجدى لضمان الاستقرار المؤسسي والقدرة على الفعل الميداني ، فما هو قائم اليوم ليس بقايا نظام بل خلاصة جهد يومي شارك فيه الآلاف ممن وقفوا في المسافة بين الانهيار والبقاء فكانوا جسراً غير مرئي لديمومة الدولة.

التغيير لا يتم بقرارات فوقية أو إحلال شامل بل من خلال فهم عميق لما أُنجز، وما تعثر، ولماذا لذلك فإن تشكيل طوافات تنفيذية من الحكومة لزيارة مؤسسات الإدارة المدنية، وإجراء نقاشات موسعة داخل المستويات التنفيذية ومجالس التأسيس، يمثل مدخلاً موضوعياً لفهم الواقع الإداري وتحديد نقاط القوة التي يمكن البناء عليها، وتلك المواقع التي تحتاج إلى تجديد أو إصلاح ، فالتغيير الحقيقي ليس هدماً لما هو موجود بل إعادة تشييد على قواعد الخبرة وتجارب الكفاح الخفي.

العديد من العاملين في الإدارة المدنية خاضوا معركة البقاء بلا دعم يُذكر، وتحملوا مسؤوليات معقدة في زمن متصدع ومع ذلك تمكنوا من توفير الخدمات، وحماية أرواح، وتثبيت حد أدنى من النظام ، تُجاهل هذه الجهود ليس فقط إهداراً للموارد البشرية، بل انقطاع في مسار الذاكرة المؤسسية التي لا تُقدر بثمن ، ولأن حفظ كرامة العاملين جزء من ترميم ثقة المواطن في الدولة، فإن تثبيت حقوق الموظفين الحاليين داخل دولاب الخدمة المدنية، وفتح مسارات التدرج والتقدير، يمثل حجر الزاوية في أي مشروع تحديث إداري.

العدالة في توزيع الأدوار التنفيذية بين المركز والولايات لا تقل أهمية إذ أن تجاهل الكفاءات المحلية سيكون مكرسة لنمط مركزي لطالما كان سبباً في الشعور بالتهميش ، وعلى الحكومة الجديدة أن تتيح للولايات فرصاً فعلية لترشيح من نهضوا بها خلال الأزمات لا على قاعدة المحاصصة، بل بناء على ما أنجزوه بالفعل، وما يعرفونه من تفاصيل لا يمكن تكرارها أو تقليدها في المكاتب المغلقة.

وإلى جانب ذلك فإن مراجعة التوصيفات الإدارية والهياكل التنظيمية يُشكل مدخلاً لتحديث الأداء المؤسسي، حيث أن كثيراً من المسميات القديمة لم تعد تعكس طبيعة المهام، وباتت بحاجة إلى إعادة تصميم ترتبط بالإنتاجية والفعالية ، غير أن هذه المراجعة يجب أن تتم بالشراكة مع الفاعلين على الأرض لا من خلال وثائق جاهزة أو حلول مستوردة.

ومن المكاسب الممكنة في هذه المرحلة الدمج بين التجربة التقليدية والوسائل الرقمية، بما يسمح بتحويل الذاكرة المؤسسية المحلية إلى قواعد بيانات ومعارف عملية تدعم صنع القرار ، فالربط بين الممارسة اليومية للموظف الإداري في أقاصي البلاد والمركز الوطني لصنع السياسات، هو ما سيصنع دولة حديثة تنمو من الداخل لا دولة ورقية تنكمش على سطحها.

كما أن تقوية التنسيق بين الحكومة ومستويات الإدارة الولائية يتطلب آليات إشرافية حقيقية، تنقل السياسات إلى الميدان وتعيد من الميدان ما يجب أن يُعرف ويُفهم في المركز ، ومن الأهمية بمكان أن تتشكل هذه الآليات من شخصيات لها صلة حقيقية بالمجتمعات، وتتمتع بفهم عميق لتعقيدات الواقع الاجتماعي، خاصة في المناطق التي تشهد هشاشة أو توترات مزمنة، حيث يكون للانتماء المحلي دور في احتواء الاحتقان وتعزيز الفعل المشترك لا إدارته من الخارج.

إن التعامل مع المجتمعات المحلية من موقع الشراكة لا الرعاية هو أحد أسس الفيدرالية الحقة، التي لا تقوم فقط على توزيع السلطات، بل على الاعتراف بالقدرة المحلية على حل الإشكالات وصناعة التوافقات ، وكل محاولة للمرور فوق هذا الواقع لن تنتج إلا حالة من العزلة وانعدام الفعالية ، ومن هنا تبرز أهمية تمتين الروابط بين القيادة المركزية والإدارة المحلية، ليس بصيغة إشرافية بيروقراطية بل بصيغة تفاعلية تُراكم المعرفة وتُوزع المسؤوليات وتُعيد بناء الثقة.

وأخيراً فإن تقدير تجربة من تحملوا المسؤولية في زمن الشدة ليس مجاملة رمزية، بل واجب أخلاقي ومؤسسي هؤلاء ليسوا فقط موظفين، بل شهود على التحولات وصناع فعل إداري واجتماعي يُعد اليوم جزءً من رأس مال الدولة المعنوي ، والاعتراف بتجاربهم هو الشرط الأول لخلق علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع قوامها الاحترام المتبادل والعمل المشترك والتأسيس على ما صمد لا القطيعة معه

إرسال التعليق

لقد فاتك