عمار نجم الدين يكتب : الجمهورية الثانية تولد من رماد الخراب - صوت الوحدة

عمار نجم الدين يكتب : الجمهورية الثانية تولد من رماد الخراب

ونحن على أعتاب لحظة تاريخية تتشكل بين أنقاض الخراب، تتفتح ملامح الحلم الذي انتظرناه طويلاً، حلم عمره اثنان وأربعون عاماً، بدأ عام 1983 مع انطلاقة مشروع الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، يوم آمنّا لأول مرة أن السودان لا يجب أن يكون كما كان، بل كما يجب أن يكون.

في الأول من ديسمبر 2024، خرج نداء وطني صادق إلى عدد من القادة السياسيين، في مقدمتهم عبد العزيز آدم الحلو. لم يكن النداء إعلان موقف، بل محاولة لالتقاط اللحظة، قبل أن تبتلعنا هاوية الانهيار الكامل للدولة السودانية، بفعل تحالفات العسكر، وقوى الطغيان، والامتيازات القديمة.

كنا نشهد بأم أعيننا مشروع التقسيم الوطني الثاني يُنفَّذ بوقاحة عبر أدوات الدولة المركزية: سحب الجنسية من مواطنين سودانيين خالصين، فقط لأنهم لا ينتمون للقبيلة أو الدين أو الجهة “الصحيحة”، وحرمان آلاف الطلاب من الجلوس لامتحان الشهادة السودانية، وقصف المدنيين على أسس عرقية في نيالا ويابوس وجبال النوبة، وتجريم حرية التعبير، وملاحقة الكلمة قبل الرصاصة، وتحويل الوطن إلى سجن كبير، يتسيّد فيه الظالم، ويُمنَع فيه المهمّش حتى من الحلم.

أمام هذا السقوط، لم يكن الصمت خيارًا، ولم تكن المساومة فضيلة. لم يعد هناك متسع للمراوغة، ولا جدوى من انتظار “حلول وسط”. المطلوب كان واضحًا: إقامة دولة سودانية حقيقية داخل الأرض السودانية، لا تنتظر اعترافًا من نظام دولي منافق، ولا تزاحم على شرعية مزيفة من عواصم المستبدين.

التغيير الجذري لا تصنعه المؤتمرات، بل الحوارات الصادقة بين القادة المخلصين. وخلال شهور طويلة، خضنا نقاشًا داخليًا جمع بين القناعة والرؤية والعمل. التقت فيه الأفكار، وامتزجت الإرادات، وتحركت الأقدام، وسهرت العقول. ومن تلك الحوارات، خرجت الجمهورية الثانية.

ولدت هذه الجمهورية لا في قصور الخرطوم، بل في ميدان نضالي مفتوح، على وقع الطائرات التي تقصف، والدماء التي تُسكب. ولدت من الحطام، من ركام القرى المحروقة، من صرخات المغتصبات، ومن وجع الأمهات في معسكرات النزوح. لكنها ولدت هذه المرة بأيدٍ سودانية خالصة، بأبناء السودان من كل جهاته، لا بأوامر المركز، ولا بفتاوى مشايخ الامتيازات.
إعلان ميلادها جاء من قاعة “جومو كينياتا” في كينيا، المكان الذي يحمل رمزية تحرر إفريقيا من أغلال الاستعمار. لم يكن المكان مجرد قاعة مؤتمر، بل معبدًا أفريقيًا للحرية. أن تُعلن فيه الجمهورية الثانية، فذلك يعني أن السودان الجديد لم يعد حُلمًا، بل إرادة تتحقق من رحم القارة، لا من أوهام العروبة القامعة ولا الأصولية الدموية.

في تلك القاعة، اجتمع أبناء السودان لأول مرة دون إقصاء أو استبعاد، دون سؤال عن اللون أو الدين أو القبيلة. جلسوا سواسية، لا عبيداً على موائد المركز، بل شركاء في ميلاد وطن. إنها اللحظة التي شعرنا فيها، ربما لأول مرة، أننا لسنا “أقلية”، بل أننا لم نُحسب من قبل ضمن معادلة الوطن.
نحن لا نبيع الأوهام. نعرف أن الطريق شاق، وأن الولادة ستكون عسيرة. لكننا نؤمن أن للحرية ثمنًا، وللعدالة ضريبة، وأن المستقبل لا يُمنح، بل يُنتزع. وندرك أيضًا أن مثقفي المركز، وأبناء الامتيازات، وأحفاد تُجّار الرقيق، لن يصمتوا. سيقفون ضد هذا الميلاد، كما وقفوا دومًا في صفوف الذين يملكون، لا الذين ينزفون. سيبكون على وحدة لم تكن يومًا عادلة، وسيتهموننا بالانفصال، بينما نحن فقط نقطع الحبل السري عن دولةٍ وُلدت مشوّهة.

نحن لا نفرّ من الوطن، بل نبحث عنه كما لم يفعلوا. لا نغادر التاريخ، بل نعود إليه من بابه الشرعي: باب العدالة والمساواة. لا نكسر الخريطة، بل نرسمها من جديد… هذه المرة، بيد الذين دُفنوا تحت ترابها.

نكتب اليوم أول سطور الفصل الجديد من التاريخ السوداني. فصل لا تُخطه لجان الدستور المزيف، ولا يُعتمد في مقرات السيادة القديمة، بل يُدوَّن بدماء الهامش، وعرق الفقراء، وأحلام من ظلوا طويلاً خارج الصورة.
هذه ليست لحظة احتفال.
إنها لحظة التزام، لحظة تحمّل مسؤولية أمام التاريخ.
فليكن إعلان الجمهورية الثانية بداية مسار لا رجعة فيه.
فالحرية لا تهبط من السماء…
بل تُنتزع من قلب النار.

إرسال التعليق

لقد فاتك