تاج الدين نصر يكتب : التاريخ العاري – ذاكرة الحروب ومأساة شعوب البادية - صوت الوحدة

تاج الدين نصر يكتب : التاريخ العاري – ذاكرة الحروب ومأساة شعوب البادية

أنا أبغض هذا النوع من التأريخ المرتبط بالحروب والموت والدمار، فقد شهدت منذ طفولتي مشاهد مأساوية لا تزال محفورة في ذاكرتي، وأظن أن هذا الشعور مشترك بين جميع أبناء البوادي، فهو نابع من قناعة متجذرة في ثقافتنا، اكتسبناها من التصوف الإسلامي والزهد في الدنيا. نحن نؤمن بأن كل ما يحدث للإنسان في هذه الحياة هو امتحان رباني، وأن الفقد ليس سوى تذكير بالعودة إلى الله، حتى لا تغرينا الدنيا بترفها وزخرفها. كما أن الحاجة والبساطة التي نشأنا عليها، والتي ورثناها من صراعنا مع الطبيعة وقسوتها، علمتنا التوكل على الله والصبر على المحن. ولعل ذلك انعكس في ثقافتنا الشعبية عبر الأغاني والأمثال التي تجسد هذه الفلسفة، مثل: “الدنيا زايلة”، “خربانة أم بنيان أم قش”، “الدنيا غرور وفراقة” وغيرها. رؤيتنا للحياة أقرب إلى الفلسفة العدمية، ولكنها ليست العدمية بمفهومها الغربي، بل عدمية نابعة من التصوف والزهد، تجعلنا نواجه الشدائد بروح صابرة، ونؤمن بأن الحياة لا تأتي كما نشتهي، بل علينا التكيف مع الواقع كيفما كان.

نحن أبناء البادية لم نكن يومًا نحب لعب دور الضحية، فالضحية ضعيفة، ونحن لم نقبل أن نكون كذلك. كنا دومًا في موقع الدفاع والمقاومة، سواء ضد الحكومات أو الحركات أو حتى الطبيعة نفسها. فقد كان أجدادنا يفتخرون بقتل الفيلة والنمور والأسود، ليتباهوا بشجاعتهم أمام أبنائهم وبنات عمومتهم (الحكامات)، اللاتي كنَّ يخلدن بطولاتهم بالأغاني، بينما يرقص الجميع على إيقاع النقارة، والمردوم، والسنجك، وعريج، وهرما وغيرها من الرقصات الشعبية.

شهدتُ الحروب والمآسي منذ طفولتي، ورأيت الجثث والدماء بعيني وأنا إبن الحادي عشر. أتذكر جيدًا معركة بحر العرب عام 2010 – إن لم تخني الذاكرة – بين الحركات المسلحة والجيش السوداني. رأيت يومها جنودًا وضباطًا يفرون تاركين عتادهم ودباباتهم، وفي الوقت ذاته، رأيت رجالًا قاتلوا حتى الموت، وعلى رأسهم الملازم محمد قور، وآخرين نجوا بأعجوبة. حينها، فتح الجيش مخازن السلاح للمدنيين وقال لهم: “احموا مدينتكم”. فظهرت بسالة البدو، وتكالبوا للقتال دفاعًا عن الأرض والعرض، لأن هذه الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي تاريخ الأجداد وذاكرة الطرقات والمراحيل. لم نكن نسمح بأن تُستباح أرضنا، حتى لو كلفنا ذلك الفناء. نحن شعوب البادية، كنا وما زلنا “حكومات لأنفسنا”، لا نعرف شيئًا عن الدولة والوطن سوى مراحيلنا، ورهودنا، وصحارينا. نعيش للحب والموسيقى، نرقص حتى بزوغ الفجر، ولكننا في المحن نتصدر الصفوف لحماية بعضنا البعض، ونعتبر حياتنا رخيصة أمام كرامتنا. نحن نخشى هجو الحكامة والقداري أكثر من الموت، كما قال شاعر البادية رحمة أبودقرورة: “الفارس يمشي.. والجبان نلبسا طرحة مع البنات”، لهذا، لم نكن نهاب الموت، بل كان الموت هو من يهابنا.

نقدّس بساطة حياتنا، ونعشق الخيام، والدِمر، والضِريات، ومغازلة ضفائر الحكامة في رقصة المردوم. لم أعشق لحظة في حياتي كما أعشق لحظة ركوب العريس فرسه، تحيط به النسوة من كل اتجاه، وهن يغنين له:

“فرسه جدية حايمة.. جوز وعرس قاسي للبترس
جينا ليك يا ود الرجال.. نربطن ليك الهلال”

رغم تاريخنا الحافل بالحروب والدماء، نحن أكثر الشعوب حبًا للحياة، وأكثرها تباهيًا بالكرم والموسيقى. الموسيقى شكلت وجداننا، فلطالما نسجنا الطبيعة لحناً، وصنعنا من مزاميرنا صوت الحمامة. هذه البوادي أنجبت شادن، وإبراهيم إدريس، وعبدالقادر سالم، وسليمان أحمد عمر، وعبدوش، وريماز المليح، وغيرهم من الأجيال الصاعدة. لا أستطيع أن أحصي عدد من أنجبتهم البادية من مبدعين في اللحن والموسيقى، لكنها ستظل دائمًا موطن الشجاعة، والحب، والموسيقى، والمقاومة.

إرسال التعليق

لقد فاتك