كاربينو يكتب :إما أن نؤسس معاً أو ننهار فُرادى
إن تأسيس أي حكومة في لحظة فارقة كالتي نعيشها، لا يُمكن أن يُختزل في توقيت أو إعلان أو مشاورات معزولة ، الأمر أكبر من ذلك بكثير نحن لا نقف على أعتاب تشكيل كيان سياسي جديد، بل على هاوية إعادة تعريف الدولة ذاتها من يُؤسس لمن، وكيف، وبأي أدوات وقيم؟ هنا يكمن جوهر اللحظة إما أن نؤسس معاً على قاعدة الشراكة العميقة والمصارحة الكاملة، أو ننهار فُرادى، الواحد تلو الآخر، مهما ظن البعض أنهم محصنون خلف مؤسسات أو جغرافيا أو سلاح.
إن ما يجعل هذه المرحلة شديدة التعقيد ليس فقط هشاشتها الأمنية والسياسية، بل أيضاً أنها مشحونة بدماء طازجة، وبذاكرة متقدة من الألم والخذلان والخذلان المضاد ، أي تأسيس لا ينطلق من هذا الوعي العميق بالجراح المفتوحة، سيكون مجرد إعادة إنتاج لذات الدورة البائسة التي عشناها مراراً ، وإن تغيرت الوجوه والأسماء.
القوة الحقيقية لا تكمن في من يملك القرار، بل في من يستطيع أن يصوغ الرضا في المجتمعات التي سُحقت بين أطراف الحرب، تلك التي لم تطلب سلطة، بل كرامة، ولم تسعى إلى مقاعد، بل إلى تمثيل عادل وحقيقي يعترف بأنها لم تكن في يوم من الأيام مجرد هامش، هذه المجتمعات التي أُهملت لعقود، هي اليوم مركز الوجدان الوطني، ولا يمكن تجاهلها في لحظة التأسيس دون أن ندفع الثمن مضاعفاً في الغد.
التأسيس المشترك ليس شعاراً يُرفع في المناسبات السياسية فقط، بل هو مبدأ أساسي يضمن بقاء الدولة وتماسكها ، عندما نتحدث عن التأسيس معاً، فإننا نعني تأسيساً لا يقوم على الإقصاء أو المحاصصة، بل على احترام التنوع والتعددية التي تشكل نسيج السودان الحقيقي ، هذا التأسيس يتطلب صبراً على الاختلافات، ورغبة صادقة في بناء مستقبل يتسع للجميع، بمن فيهم المظلومون والمهمشون، الذين لم ينالوا من الوطن سوى الوعود المؤجلة.
ولا يمكن تجاهل التحديات الكثيرة التي تحيط بعملية تأسيس الحكومة، بدءً من الانقسامات العميقة داخل المجتمع، مروراً بالتجاذبات السياسية، وصولاً إلى التأثيرات الإقليمية والدولية التي تلعب أدواراً خفية وعلنية ، هذه التحديات تجعل من كل خطوة اختباراً دقيقاً لقوة الإرادة الوطنية، وتتطلب منا أن نختار بعناية بين البناء على الألم أو الانزلاق مرة أخرى إلى مساحات الانهيار.
الدماء التي سالت ليست مجرد ثمن، إنها ذاكرة حية وأمانة معلقة في رقاب الجميع ، لا يمكن أن نكتب فصلاً جديداً من تاريخ السودان دون أن نحمل أسماء الشهداء في ضميرنا الجمعي، دون أن ندرك أن كل قطرة دم كانت تقول شيئً عن هذا الوطن عن مواطنيه المقموعين، وعن الدولة التي لم تكن يوماً للجميع ، التأسيس الحقيقي يبدأ من هنا من الوقوف عند الدم لا تجاوزه من الإنصات لصوت المعاناة، لا الاكتفاء بترتيب الكراسي.
التسرع في إعلان الحكومة دون استكمال شروط التفاهم الوطني العميق، يشبه بناء بيت فوق رمال متحركة ، ما يبدو حلاً اليوم قد يتحول إلى عثرة غداً، التحدي ليس في ملء المقاعد، بل في خلق شعور عام بأن هذه الحكومة تعبر عن الناس، لا عن التوازنات السياسية فقط ، نحن بحاجة إلى بطء مسؤول ، يعيد ترتيب الأوراق على أسس جديدة، وليس إلى سرعة استعراضية تبني ما لا يصمد.
لطالما كان الهامش يُستدعى عند الحاجة للقتال أو التفاوض، ثم يُعاد إلى مكانه في الظل ، الآن ولأول مرة يقف هذا الهامش في قلب المعادلة، لا كقوة مساندة بل كقوة مؤسسة ، تأسيس الحكومة القادمة يجب أن يعترف بأن مركز السودان الجديد هو الهامش، وأن هذا التحول الجذري هو وحده القادر على خلق دولة يشعر فيها الجميع بأنهم جزء منها لا غرباء على أطرافها.
الشراكة الحقيقية تعني أكثر من مجرد تمثيل رمزي في السلطة ، إنها تعني أن تُعاد هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع، أن تُضمن الحقوق، ويُعاد توزيع السلطة والثروة، وتُفتح مؤسسات الدولة أمام الجميع لا بالترضية بل بالاستحقاق ، هذا لن يتم دون مراجعة للآليات التي أنتجت الانهيار ، ودون مساءلة حقيقية للقوى التي أسهمت في الخراب ، سواء عبر الاستبداد أو الصمت أو التواطؤ.
ما نحتاجه ليس حكومة فنية أو سياسية بقدر ما نحتاج إلى نقطة بداية نزيهة وأمينة وشجاعة حكومة لا تبني على موازين القوة وحدها، بل على موازين العدالة، التمثيل، والرضا الاجتماعي الحقيقي ، حكومة لا تُقصي أحداً ممن قاتلوا لأجل هذا الوطن، ولا تسترضي من شاركوا في تدميره ، حكومة لا تتجاهل الدماء ولا تغلق الباب أمام الغضب، ولا تتواطأ مع من صنعوا أسباب الانهيار.
إما أن نؤسس معاً ونتحمل هذا العبء المشترك بأمل ومسؤولية أو ننهار فُرادى، كل في صومعته، كل في خيبته، وكل في عزلته ، وهذا الوطن الذي صمد رغم كل شيء، يستحق أكثر من مجرد لحظة سياسية ، إنه يستحق مشروعاً للحياة والعبور ، وموطئً للعدالة، وأملاً جماعياً لا يتجزأ.
إرسال التعليق