عمار نجم الدين يكتب : 26 عاما من بحر الغزال إلى كادقلي: حين يتحوّل الخبز إلى طلقة… و الجيش إلى قاتل متسلسل
في عام 1998، مات أكثر من سبعين ألف إنسان في بحر الغزال جوعًا، لا لأن السماء لم تمطر، بل لأن الجيش السوداني أحكم الحصار، وأحرق المحاصيل، ونهب الماشية، وأغلق الطرق في وجه الإغاثة، ثم جلس في الخرطوم يكتب الأخبار: “الوطن بخير”. كان الجوع وقتها قرارًا عسكريًا، والسلاح الذي قتلهم لم يكن البندقية، بل كيس ذرة ممنوع، وطفل يئن في وُو وهو ينتظر الغوث من السماء، بينما قادة الدولة يلقون الخُطب عن الجهاد و العقيدة و و قتال الكفار .
واليوم، بعد ستة وعشرين عامًا، تعود نفس القصة… لكن المسرح هذه المرة اسمه كادقلي. الجوع نفسه. الكذب نفسه. الجيش نفسه.
الذرة محجوزة في المخازن كسلعة استراتيجية للجيش المساعدات محاصَرة، والنساء يحلمن برغيف خبز لا يُشترى بالولاء ولا يُباع في السوق .
لم تكن بحر الغزال استثناءً، وكادقلي ليست صدفة. ما نراه هو مشروع دولة، لا تعرف الحكم إلا بالبندقية، ولا تحترف إلا تجويع شعبها. الجوع هنا ليس كارثة… إنه سياسة، والمجاعة ليست قضاءً وقدرًا… بل قرار صادر عن رئاسة الأركان
اليوم لا نكتب مقالة… بل نفتح ملفًا مُغلقًا بالدّم، ومطبوعًا بأختام الأمم المتحدة نفسها.
في عام 1998، شهدت منطقة بحر الغزال مجاعة تُعد من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخ السودان. قُتل فيها أكثر من سبعين ألف شخص خلال أشهر، بينما كان الجيش السوداني يحاصر القرى، ويقايض الأهالي: أعطنا أولادك، وخذ كيس ذرة.
كانت تلك المجاعة نتيجة مباشرة لحصار ممنهج شنّه الجيش ضد المدنيين، بهدف كسر التمرد في الجنوب. لكن ما لم يُكتب في الصحف المركزية، أن المجاعة كانت مبرمجة، وأن الغذاء استُخدم كسلاح مثل البندقية تمامًا. هذا ليس كلام نشطاء، بل وثقته منظمات الأمم المتحدة نفسها، وعلى رأسها برنامج الغذاء العالمي، وهيومن رايتس ووتش، ووكالات دولية أصدرت بياناتها علنًا.
في تقارير الأمم المتحدة المؤرخة بين 2001 و2010، وُثّق استعمال الجوع كسلاح حرب، والاغتصاب الجماعي كأداة للترويع والسيطرة. في قرى بحر الغزال، وراجا، وياي، وتونج، كانت النساء يُغتصبن أمام أطفالهن، ثم يُسألن: هل تريدين دقيقًا؟ اذهبي واغسلي دمك أولاً. هذه ليست مبالغات، بل وقائع وردت في تقارير بعثة الأمم المتحدة في السودان، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية. الأدهى أن الاغتصاب لم يكن انحرافًا فرديًا من جنود طائشين، بل تعليمات شبه رسمية، مغطاة بالاستخبارات، ومحمية بالصمت.
واليوم، لا أحد يذكر “كيكل ” في الجزيرة، حيث اغتُصبت نساء بدمٍ بارد على يد قوات كان يشرف عليها عبد الفتاح البرهان شخصيًا، و بيعت النساء في الأسواق و قتل المواطنين في ود النورة حين كان ضابطًا استخباراتيًا مزروعًا داخل الدعم السريع بأمر من النظام. وهل تعرفون من يغضّ الطرف عن هذه الجرائم؟ مثقفون يتباكون على “الجيش الوطني”، وصحفيون يدّعون الحياد وهم يكتبون من غرف الأمن في بورتسودان، وأحزاب تُسمي نفسها معارضة وهي تقاتل إلى جانب البرهان في الخفاء، وتظهر في النهار وهي تشجب “الطرفين” بلا خجل!
أيها السادة… ليس هناك جريمة أكبر من الجوع، سوى تبرير الجوع. وليس هناك اغتصاب أبشع، من ذاك الذي يُبرره كاتبٌ بليغٌ تحت بند الوطنية. لقد صمت كثير من المثقفين عن جرائم الاغتصاب التي حدثت في الجنوب، وفي دارفور، وفي جبال النوبة اليوم. لم يذكروا حرفًا عن تقارير الأمم المتحدة، بل اختاروا شيطنة الحركة الشعبية، وتكرار روايات الجيش دون مساءلة. هؤلاء ليسوا كتّابًا… بل وكلاء قتل مؤجل.
كلما تحدّثت الحركة الشعبية عن العدالة، اتهموها بأنها “تريد تقسيم السودان”. كلما نادت بالدولة المدنية، وصفوها بـ”العميلة”. وحين خرجت الأمم المتحدة تقول بوضوح إن الجيش ارتكب جرائم حرب وجرائم اغتصاب… سكتوا. لكنهم لا يسكتون حين يصدر بيان من كاودا، أو حين تُفتح مدرسة جديدة تحت راية السودان الجديد! الاستهداف ليس عفويًا، بل استهداف منظّم، الهدف منه إفراغ البلاد من أي مشروع بديل، وتشويه كل من يحمل رؤية.
لنقلها بوضوح: الجيش السوداني ليس مؤسسة وطنية، بل نظام قهر موروث من الاستعمار. قصف القرى، جوّع الأطفال، اغتصب النساء، كافأ القتلة، وحرَسَ الخرطوم لا الوطن. كل ما جرى في بحر الغزال، يجري اليوم في كادقلي. الوجوه تغيّرت، لكن العقيدة واحدة. الزي تبدّل… لكن الجوع واحد، والاغتصاب مستمر، والصمت أخطر من القتل.
أيها السودانيون، إن لم تصرخوا الآن، فمتى؟ هل تنتظرون مجاعة أخرى لكتابة القصائد؟ هل تحتاجون إلى تقارير أممية جديدة كي تُصدّقوا أن الجيش قاتلكم الأول؟ اسألوا أرواح بحر الغزال… واسألوا نساء كيكل … واسألوا كادقلي التي تحترق جوعًا، بينما “الحياديون” يكتبون عن “معاناة الطرفين”!
الجوع سياسة.
الاغتصاب استراتيجية.
والمثقفون خُدّام الشيطان إن صمتوا.



إرسال التعليق