(تحت الرماد ) سارة السعيد تكتب : انكشاف أمن البحر الأحمر: عندما تتوارى القوة الغربية ويتهدد السودان من الموج
في الأسبوع الأول من يوليو 2025، تعرّضت سفينتان تجاريتان في البحر الأحمر لهجمات حوثية دقيقة، أسفرت عن غرق إحداهما وسقوط قتلى واختفاء طاقم. كانت هذه هي اللحظة التي كشفت عمق التحول الذي شهده ممر استراتيجي ظلّ لعقود تحت الحماية الغربية. ليس في هذا الحدث ما يُدهش من حيث الفاعل أو السلاح المستخدم، بل في السياق: تقهقر الردع الدولي، واختلال ميزان السيطرة البحرية، وانكشاف سواحل السودان كخط هش غير محمي في مواجهة موجات العنف العابر للحدود.
القوة البحرية الغربية التي كانت يوماً ما تتمدد من المحيط إلى الخليج، باتت تعاني نقصاً حاداً في القدرة التشغيلية. عملية “أسبيديس” الأوروبية التي أُطلقت لحماية السفن من التهديدات الحوثية باتت، في الواقع، تملك سفينة واحدة في المتوسط لتأمين آلاف الكيلومترات. أما الولايات المتحدة، فتفضّل مراقبة التحولات من الجو، مع الاعتماد على عمليات استخباراتية موضعية دون التورط في ردع مباشر. هذه المفارقة تفتح الباب واسعاً أمام من يملكون إرادة الهجوم، لا منظومات الردع.
وفي هذا الانكشاف العام، يطل السودان من خاصرته البحرية كميدان فارغ من القرار السيادي. فمنذ اندلاع الحرب الداخلية، تحوّلت بورتسودان إلى شبه عاصمة موازية، تستضيف حكومة الجيش وممثلين خارجيين، لكنها تفتقد القدرة على ضبط الشريط الساحلي فعلياً. فلا وجود بحري منظّم، ولا مراقبة استخباراتية فعالة، ولا استراتيجية أمن موانئ متكاملة. وبينما تتجه القوى الكبرى نحو الاستثمار في قواعد بحرية – كما تفعل روسيا والإمارات وتركيا – يقف السودان على شفا تحوّله إلى مساحة عبور غير خاضعة لأي مركز قرار وطني واضح.
ما يزيد من خطورة اللحظة هو التقاء الجبهة البحرية المنفلتة بجبهة داخلية منقسمة. فالموانئ السودانية التي قد تتحول إلى واجهات بديلة للتجارة الدولية في حال اضطراب المضيق، هي ذاتها مهددة بالشلل في حال اتساع دائرة الهجمات أو استخدامها كنقاط انطلاق لتحركات عسكرية بالوكالة. عندها، لن يكون السودان فقط ضحية لتأرجح البحر الأحمر، بل مشارك غير مباشر في تصعيد لا يملك التحكم في مساره.
الأطراف الإقليمية الكبرى تراقب الموقف بدقة. السعودية، التي تعتبر البحر الأحمر امتداداً مباشراً لأمنها القومي، ترى في انكشاف الجبهة السودانية عامل تهديد مضاعف. تركيا، التي أعادت ترسيخ حضورها الثقافي والرمزي في سواكن، تستثمر اللحظة لتوسيع نطاق نفوذها عبر مزيج من القوة الناعمة والتحركات غير المعلنة. ومصر، القلقة من التمدد التركي والروسي جنوباً، تستشعر الخطر من كون السودان لم يعد حاجزاً بل ممرّاً لكل الاحتمالات.
في عمق هذه التحولات، يبرز سؤال وجودي: هل البحر الأحمر، كما عرفناه في القرن العشرين، لا يزال محكومًا بلعبة توازن القوى التقليدية؟ أم أننا ندخل فعلاً مرحلة ما بعد السيطرة البحرية الغربية، حيث تُملي الميليشيات، والقوى الصاعدة، والفراغات السيادية شروط اللعبة؟ ما يحدث على سواحل اليمن بات يُملي إيقاع التجارة العالمية، وما لا تسيطر عليه البوارج، قد تسيطر عليه الدرونز.
تحت الرماد السودان، ليس أمامه وقت للانتظار. عليه أن يقرّر: هل يريد أن يكون فاعلاً سيادياً في أمنه البحري، أم مفعولاً به تتقاذفه الأمواج بين قاعدة روسية هنا، وتموضع تركي هناك، وفراغ أمني يتسلل منه الجميع؟ بين بورتسودان وسواكن، لا تقف فقط جغرافيا السياسة، بل الجواب الحقيقي عن مستقبل السودان في الإقليم، وعما إذا كانت سيادته البحرية ستُستعاد، أم ستغرق تحت الموج.
إرسال التعليق