النور حمد يكتب : مشروعُ مصرَ لابتلاعِ السودان
بدأت الهيمنة المصرية على السودان تتخذ صورةً جديدةً، في العصر الحديث، ابتداءً من الربع الأول من القرن التاسع عشر، أثناء فترة الحكم التركي المصري (1821 – 1885م). ثم تواصلت تلك الهيمنة عقب سقوط الدولة المهدوية التي أنهت ذلك الاحتلال وحكمت السودان في الفترة الممتدة من عام 1885 إلى عام 1898. بسقوط الحكم المهدوي في عام 1898، وقع السودان في قبضة ما سُمي الحكم الثنائي الإنجليزي المصري. لكن ابتداءً من ثورة 1924 أصبحت مشاركة المصريين في إدارة السودان مشاركةً اسمية. لكن، استيقظت الرغبة المصرية في الهيمنة على السودان، كأقوى ما تكون، حينما ظهر أن حراك الاستقلال عن الحكم البريطاني يوشك أن يؤتي أكله، في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي.
تطلَّع نظام الرئيس جمال عبد الناصر بقوة نحو أن يتَّخذ السودانيون قرار استقلال بلادهم عن الحكم البريطاني ويعلنون في نفس الوقت الوحدة مع مصر. وكانت مجريات الأمور، حينها، تشير إلى أن احتمال الوحدة مع مصر خيارٌ راجح. لكن، حين حانت لحظة الاستقلال تفاجأ النظام المصري بإعلان السودانيين استقلالهم عن كلٍّ من بريطانيا ومصر. لكن، رغم ذلك، يمكن القول إن مصر نجحت عبر مختلف الأساليب أن تخلق لنفسها داخل السودان “حصان طروادة” ليعمل على إبقاء مصر حاضرةً على الدوام في شؤون السودان. وقد تمثَّل هذا الحصان الخادم للإرادة المصرية، بادئ الأمر، في القوى الحزبية السودانية المتمثلة في فصائل الاتحاديين، التي اتخذت لنفسها في مراحل مختلفة أسماء: حزب الأشقاء، والحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي. لكن في عام 1967 انتهى ذلك التشرذم الذي اتسمت به القوى التي كانت تنادي بالوحدة مع مصر بإنشاء ما سُميَّ الحزب الاتحادي الديمقراطي. لكن، رغم استثمار مصر الكثير في القوى الاتحادية، إلا أنها لم تستطع أن تخدم الغرض المصري إلا في حدودٍ ضيقة.
التَّحوُّل من الأحزابِ إلى العسكر
أحس النظام المصري الناصري أن الأحزاب لا تخدم غرضه كما ينبغي، خاصةً أن حزب الأمة، وهو من الأحزاب الاستقلالية التي عارضت الوحدة مع مصر، كان قد اكتسح انتخابات 1965، التي أعقبت ثورة أكتوبر 1964. فقد حصل حزب الأمة في تلك الانتخابات على تسعين مقعدًا. هذا في حين حصلت كتلة الاتحاديين التي كانت منقسمةً على مقاعدٍ أقل. فقد حصل الحزب الوطني الاتحادي على 60 مقعدًا، وحصل حزب الشعب الديمقراطي على 13 مقعدًا. وأتي بعدهما في عدد المقاعد الحزب الشيوعي السوداني بـ 11 مقعدا. ويبدو أن النظام المصري قد اقتنع بناءً على تجربته مع القوى الحزبية الاتحادية، أن الاعتماد على الجيش في خدمة مصالحه في السودان أفضل له من الاعتماد على القوى الحزبية.
في غمرة التهاب الخطاب القومي العربي عقب هزيمة مصر الساحقة في حرب 1967 وفقدانها صحراء سيناء، نفذ تنظيم الضباط الأحرار السوداني، في عام 1969 انقلابًا عسكريًّا على النظام الديمقراطي قاده العقيد جعفر نميري. ورغم أن البلاد قد تولى حكمها العسكريون الذين نفذوا الانقلاب العسكري مع جعفر نميري فقد اختار نميري شخصًا مدنيًّا لرئاسة الوزارة، هو القاضي، بابكر عوض الله. وهو سودانيٌّ مصريُّ الهوى عُرف بأنه قوميٌّ عربي. ويشير هذا بوضوح إلى ضلوع النظام المصري الناصري في تدبير ذلك الانقلاب، وأن بابكر عوض الله قد كان من كبار مدبِّري ذلك الانقلاب بتوجيهٍ مصري. في العامين الأولين عقب الانقلاب سيطر القوميون العرب والشيوعيين على الحكومة. لكن، ما لبث أن حاول الشيوعيون الانقلاب على جعفر نميري في يوليو 1971. لكن، فشل الانقلاب، وتسبب في ضربةٍ ماحقةٍ للحزب الشيوعي السوداني. ونتيجةً للمعارضة الحزبية التي واجهها نظام جعفر نميري ونتيجة للمحاولات الانقلابية العديدة عليه، اهتز النظام ولازمه الفشل، وانتهى الأمر بجعفر نميري، وللسخرية، مطبِّقًا لأجندة الإخوان المسلمين، معلنًا تطبيق ما أسماه “قوانين الشريعة الإسلامية”، في سبتمبر 1983.
الإخوان المسلمون من التحدي إلى الانصياع
كانت فترة الديمقراطية الثالثة التي أعقبت ثورة أبريل 1985، التي أسقطت نظام جعفر نميري، فترةً باهتةً خلت من أي إنجازٍ ذي بال. وقد نجح الإخوان المسلمون في هزها وإضعافها مسلِّطين الضوء على فشلها العسكري الذي تمثَّل في إسقاط الحركة الشعبية لتحرير السودان لعددٍ من حاميات الجيش في الجنوب. برع الإخوان المسلمون في هز شجرة الديمقراطية الثالثة بآلتهم الإعلامية، هزَا عنيفًا حت عزلوها عن الجماهير. ثم ما لبثوا أن اقتلعوها بانقلاب الترابي/البشير في عام 1989. ناصب نظام الترابي/البشير مصر عداءً حادًّا وقلص المؤسسات المصرية القديمة في السودان. ثم ما لبث أن دبَّر محاولة اغتيال الرئيس المصري الفاشلة في أديس أبابا في عام 1995. ونتيجة لتطرف النظام ودعوته لأسامة بن لادن للإقامة في السودان، ووقوفه ضد تحرير الكويت، وانخراطه في العديد من الأنشطة الإرهابية، وجد النظام المصري فرصته في عزل النظام السوداني على المستويين الإقليمي والدولي. وانتهى الأمر بأن انتقل نظام عمر البشير الذي كان تخلص في عام 1999 من سيطرة الدكتور حسن الترابي على السلطة، من حالة التحدي للنظام المصري إلى حالة الانبطاح والإذعان لإرادته. وهكذا أحكمت مصر قبضتها على عنق السودان بصورةٍ هي الأقوى على الإطلاق منذ استقلال السودان.
الفريق البرهان والي مصر على السودان
منذ العصور الكوشية القديمة وحتى ثورة ديسمبر 2018، لم يحدث قط أن بيع القطر السوداني بالكامل لقوةٍ أجنبيةٍ إلا على أيدي الفريق عبد الفتاح البرهان وطغمته العسكرية، التي انقلبت على ثورة الشعب، بتخطيطٍ وإملاءٍ مصري. وقد تطابقت في عملية هذا الاستلحاق المخزي للقطر السوداني بالقطر المصري، شهوةُ الفريق البرهان العارمة للسلطة والثروة، مع شهوة الإخوان المسلمين للعودة إلى احتكار السلطة والثروة، إضافةً إلى طمع النظام المصري المختنق اقتصاديًا، الذي لا مخرج له سوى في الهيمنة المطلقة على موارد السودان الضخمة ومياهه.
لقد بدأ نهب موارد السودان بمعدلاتٍ ضخمةٍ في السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير. وقد جرى ذلك عبر قوى الدولة الموازية وعلى رأسها الجيش السوداني، الوكيل الحصري لمصر في نهب ثروات السودان. أما فترة سيطرة الفريق البرهان على مقاليد الأمور، التي بدأت منذ أبريل 2019، فقد انتقلت فيها الهيمنة المصرية من نهب الموارد إلى السيطرة الكاملة على القرار السياسي السوداني وعلى الموارد السودانية. لقد نهبت مصر من موارد السودان، منذ أن تولى الفريق البرهان السلطة، ما لم تنهبه على مدى قرنين؛ أي، منذ غزو محمد علي باشا للسودان في عام 1821. وقد عرضُّتُ ذلك بتفصيلٍ مُوثَّق في كتابي الذي صدر حديثا بعنوان: “الهيمنة المصرية على السودان: الصيحة الأخيرة قبل الابتلاع”. لقد فتح الخضوع والاستكانة التي اتسمت به سنوات الرئيس المخلوع عمر البشير العشر الأخيرة في الحكم، شهية النظام المصري لابتلاع السودان بأكمله عبر وكيلٍ عسكريٍّ من السودان، مرَّةً وإلى الأبد. وقد لعب احتضان مصر لمدير جهاز الأمن والمخابرات السودانية، صلاح قوش، بعد هروبه من السودان، دورًا محوريًا في مجمل خطة قتل الثورة والمضي قدمًا في الخطة المصرية لابتلاع السودان.
لقد حدثت كل الجرائم التي ارتُكِبت في حق الثورة والثوار السودانيين، منذ اعتصام القيادة العامة في عام 2019، وحتى هذه اللحظة، بإملاء مصريٍّ محض. فعملية فض اعتصام القيادة العامة، وقتل الثوار العُزَّل المعتصمين بطرقٍ بشعةٍ، وتشكيل ما سُمي الكتلة الديمقراطية، وقفل ميناء بورتسودان والطريق البري، وتنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 على الفترة الانتقالية، وإبعاد حمدوك عن السلطة، قد جرت، جميعها، بإملاءٍ مصري. يُضاف إلى ذلك، أن إشعال الحرب للقضاء على قوات الدعم السريع، وتحطيم البنيات الصناعية السودانية في الخرطوم بحري وغيرها بسلاح الطيران المصري، وجر إريتريا للتدخل في الصراع السوداني، قد جرت، هي الأخرى، بإيعازٍ مصري.
والآن، تسعى مصر وبإصرارٍ شديد، لتعطيل لقاء الرباعية في واشنطن بإصرارها على إشراك الجيش، دون غيره من كل القوى السودانية، في المباحثات المرتقبة. ولا غرابة، فقد أثبت أنه وكيلها الحصري في مخطط إلحاق السودان بمصر. إن هذا الصراع الجاري الآن في البلاد، كما تفضل الناشط عزام إبراهيم، ليس في جوهره بين الجيش وقوات الدعم السريع وما يقف خلفهما من مكونات، وإنما هو بين ثورة ديسمبر والنظام المصري الذي يصر على الوقوف في وجه أي حلٍّ لا يضمن له تثبيت العسكر حكامًا دائمين على السودان، كما هو الحال في مصر. ويا طالما تطلع السودانيون الوطنيون الأحرار إلى علاقةٍ شفافةٍ معافاةٍ من أمراض الهيمنة وشُحِّ النفس، مع الشقيقة مصر. علاقةٌ تقوم على تبادل المصالح بين الشعبين، وما أكثرها، بضميرٍ نقيٍّ، وبحرصٍ حقيقيٍّ على مصلحة الطرفين. لكن، يبدو أن هناك شوطًا طويلاً متبقيًّا في هذا المسار المأمول. فمنذ موت جمال عبد الناصر وقعت الدولة المصرية في قبضة عصابةٍ مكوَّنةٍ من قيادات الجيش، ومن رجال المال والأعمال، الذين أنشأوا لأنفسهم، وخاصةً في فترة حكم الرئيس حسني مبارك، دولةً موازيةً، طابقت مثيلتها التي أنشأها الإخوان المسلمون في السودان. وهذا هو سر هذه الهجمة الاستلحاقية الشرسة، المزدوجة، التي تجري الآن. لكن، سيفكُّ السودان عن رقبته هذه القبضة الخانقة المُقْعِدة. وسيفعل الشعب المصري نفس الشيء، طال الزمن أم قصر، “كانَ عَلَى رَبِّكَ حَتَمًا مًقْضِيَّا”.



إرسال التعليق