مليح يعقوب حماد : دور الكيزان في تدهور قطاعات الثقافة والفنون في السودان.
لعب الفلول والكيزان دورًا بارزًا في تدهور قطاعات الثقافة والفنون والفكر والإبداع في السودان، وحققوا من وراء ذلك مآرب حزبية ذاتية ضيقة لا تربطها أي صلة بالمصلحة الوطنية العامة. وقد انتهج الكيزان في مجالات الأدب والفنون العديد من السياسات الثقافية الضارة (المعلنة والخفية). وحرموا الفنون من لعب أدوارها الرسالية الخالدة، والمتمثلة في رفع الوعي وتحسين السلوك وتعزيز التواصل المجتمعي وتغيير اتجاهات الرأي العام. لقد عمد الكيزان إلى تجهيل المبدعين وتغبيش الوعي الفني وسط قطاعات كبيرة من السكان، خاصة أولئك المواطنين المغيبين عن الوعي، والذين يعتقدون وبشكل خاطئ بأن الفنون مجرد وسيلة للفرح أو الترويح عن النفس، ويجهلون قيمتها الجوهرية في كيفية إحداث التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي المنشود. لقد ساهم الكيزان في تقييد عمل المؤسسات الثقافية الخاصة والعامة والمملوكة للدولة، وحرموها هي الأخرى من أداء مهامها بالشكل المطلوب، ومن ضمنها وزارة الثقافة والإعلام، والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ومحكمة الملكية الفكرية، وشركات الإنتاج الفني والإعلامي، والمجلس الاتحادي للمصنفات الأدبية الفنية، ومراكز الشباب، ومجلس المهن الموسيقية والمسرحية، والنقابات الثقافية، واتحادات الفنانين والشعراء والكتاب والأدباء، وما إلى ذلك. حيث عانت تلك المؤسسات الثقافية من إهمال الدولة، وشح التمويل، وضعف الميزانيات، ونقصان الآليات المناسبة لإنجاح العمل الفني، مع وجود شروخات واضحة في اللوائح والقوانين المنظمة للفعل الثقافي، وعدم توفر البيئة المناسبة للإنتاج الفني، بالإضافة إلى عدم وجود معايير واضحة لاختيار المبدعين في السودان. حيث انتشرت في عهد الحركة الإسلامية الأغاني الهابطة والدكاكينية، كما اختلط الحابل بالنابل، وساد الهرج والمرج على الساحة الفنية، وصار كل من هبَّ ودبَّ يمتهن الثقافة والفنون، إلى الدرجة التي دفعت المواطنين إلى عدم القدرة على التمييز بين المبدعين وأنصاف المبدعين، وبين المطرب والفنان والمغني والمنولوجست. وقد ساد الحقد بين الفنانين، وانتشرت الغيرة والأنانية والضغائن في أوساطهم، إلى الدرجة التي دفعت بعضهم إلى الاستعانة بالسحر والدجل والشعوذة والكواديك، كما ظل بعضهم يكيل الشتائم لأخيه المبدع الآخر من أجل إقصائه من المشهد الفني. وقد وجدت النكات الهزلية والعنصرية حظها الوافر من النشر في الأجهزة الإعلامية المرئية والمسموعة على حساب المسرح والتمثيل والدراما، وتم تضييق الخناق على الفن الراقي الأصيل (الشعبي والحديث)، وانقرضت الكثير من الثقافات والعادات والتقاليد والفنون والرقصات وغيرها من الموروثات الشعبية القديمة التي كانت تساهم في المحافظة على الصور الحضارية للدولة وتميِّز السودان عن غيره من البلدان. وقد ترك الكيزان الباب مفتوحًا على مصراعيه لأنصاف المبدعين الذين تسلقوا المشهد الفني وخدشوا حياء الناس وأفسدوا ذوقهم العام. كما نشر الكيزان ثقافة العنف والتطرف والإرهاب على حساب ثقافة السلام، وأصبح غالبية الشباب يستمعون إلى الأغاني بأرجلهم بدلًا عن آذانهم. وقد صارت الثقافة والفنون والفكر والإبداع من أكبر ضحايا حكومة الإنقاذ، ومن أهم أركان الصراع في داخلها. وعندما استولى الكيزان على السلطة في العام 1989م، قاموا بمحاربة الفنون، وسعوا لإفراغ الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون من إرثها الفني المحفوظ في الأرشيف، كمحاولة يائسة منهم لمحو ذاكرة الأمة وقطعها من تاريخها الثقافي القديم، وانتهجوا سياسة القطيع كوسيلة للتبشير بمشروعهم الحضاري المزعوم، وظل إعلامهم المرئي والمسموع يطنطن في أذن الشعب بشكل يومي ومستمر بأغاني الحماس والجهاد والدفاع الشعبي؛ فمع كثرة التكرار حفظها الجمهور عن ظهر قلب، ثم استبدلوا الأغاني العاطفية والوطنية الخالدة بالأناشيد الدينية المعادية لأمريكا وروسيا وإسرائيل. لقد استغلت الحركة الإسلامية الدين كوسيلة لتذويب الخصوصيات الثقافية، وكزريعة لإلغاء الاختلافات العرقية. وقد تجاهل الفلول الكيزان المشتركات العامة الجامعة بين جميع الأديان السماوية، والتي نعتبرها من أهم عناصر الثقافة ومن أبرز محدداتها، وقد دعمت تلك الأديان الثقافة ودافعت عنها بالآيات والأحاديث، وجاهدت من أجلها بالغالي والنفيس، ثم انطلقت بجوهرها نحو المستقبل. والدين الإسلامي مثلاً يقول: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) و (مَن شَاءَ مِنكُمْ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) و (اطْلُبُوا العِلْمَ مِنَ المَهْدِ إِلَى اللَّحْدِ) وهكذا. وقد اعتدى الكيزان على حقوق النساء ومنعوهن من حرية اختيار الأزياء، وقد غيبوا الدور الفعلي للصحافة والفنون والسينما والمسرح والتراث والفلكلور والرسم والنحت والتشكيل، وخلقوا أزمة كبيرة في كيفية تواصل الأجيال.
لقد ناضل المبدعون الحقيقيون ضد شعاراتهم الكاذبة، على العكس من أنصاف المبدعين الذين يؤدلجهم إعلام الإنقاذ، أو تأتي بهم الصدفة، فيتبخرون كرغوة الصابون، وينفض الناس من حولهم، بعد انتفاء أسباب ظهورهم، وركاكة فنهم ونشاز أصواتهم. فالهالة الإعلامية التي أوجدتهم أولى بها غيرهم.
وقد استردت قطاعات الثقافة والفنون بعضًا من عافيتها عند بداية ظهور الشركات الفنية الخاصة، كشركات الكاسيت والإنتاج الفني والإعلامي، وشركات الدعاية والإعلان، والتي قد رفدت الساحة الفنية بالعديد من النجوم، وفي شتى مجالات الإبداع المرتبطة بالمسرح والتمثيل والغناء والتراث والشعر والدوبيت والنم والرسم والتشكيل. وقد أحدثت حراكًا ثقافيًا منقطع النظير، وخلقت تنافسًا شريفًا بين مختلف الأنماط، كان بمقدور الشركات الصمود من أجل العبور بالثقافة والفنون إلى بر الأمان، ولكنها سرعان ما انهار مشروعها بسبب تهاون الدولة في توفير الرقابة القانونية الكافية لحماية المنتوج الثقافي، مما أسهم بدوره في إهدار حقوق الشركات والمبدعين. فبعد ظهور – الإم بي ثري (MP3) – أعلنت أغلب الشركات الفنية إفلاسها ثم أغلقت أبوابها وخرجت من السوق. فساءت بذلك أحوال المبدعين، وتدهورت مستويات دخولهم، وانخفضت كمية الإيرادات التي كانت تتحصل عليها الدولة من الفنون. وكانت الشركات ولوقت قريب هي الدينامو المحرك للإبداع، لما توفره من حقوق وأجور للمبدعين وكثير من العاملين في الحقل الثقافي. ففي ظل وجودها، كانت مباني المصنفات تعج بالتفاعل والحيوية والحركة والنشاط، ومع غيابها فقدت المصنفات الأدبية والفنية بريقها ولمعانها، وخيم على أسوارها كثير من البؤس والحزن والكآبة. وتم اقتلاع شجرة الزهاجة من أمام مبنى الفنون الشعبية، تلك الواحة الوارفة، التي يستظل تحتها المثقفون، ويطرحون رؤاهم وأفكارهم وأشعارهم وأغانيهم.
لقد قام الشعراء بنقل منتدى حسن الزبير إلى مركز شباب أم درمان (شيخ المراكز)، ونلاحظ أن مراكز الشباب عانت كثيرًا من ظلم الكيزان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما اشتدت المعارك في الجنوب، طلب المسؤولون من أعضاء مركز شباب أم درمان إخلاءه لمصلحة المجاهدين وأفراد الدفاع الشعبي، وتم إخطار العازفين بضرورة سحب آلاتهم الموسيقية من المخزن، بنية استخدامه لتخزين السلاح والذخائر. ومن المعروف أن مراكز الشباب كانت تتبع لوزارة الشباب والرياضة، ولا تربطها أي صلة بوزارة الدفاع. وقد أنشأها النميري لتنمية مواهب الشباب، وتطوير مهاراتهم في شتى مجالات الرياضة والفنون والفكر والإبداع. ومن المشاكل التي واجهت المبدعين في عهد المخلوع عمر البشير، حل لجنة إجازة النصوص والأصوات بالإذاعة القومية، مما تسبب في انحسار تسجيلاتها الرسمية، فخسرت بذلك الأغنية السودانية لاعبا جوهريا ساهم كثيرًا في نشرها وحفظها وتوثيقها وحمايتها من الشرخ والتشويه. لقد أجحفت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في حقوق المبدعين عبر التسجيلات الرسمية التي كانت تجريها مع المبدعين وفق عقودها الفنية، السارية لفترات زمنية طويلة تصل مدتها لخمسين عامًا، وتم تخفيضها لاحقًا إلى عشرين عامًا، وبمبالغ زهيدة.. قد لا تكفي حاجة المبدع لشهر. وقد كانت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ولوقت قريب، حريصة على منح الحقوق الأدبية والمادية لأصحابها، لكن مع مرور الوقت أصبحت كغيرها من القنوات، حيث باتت تتململ من ذكر كلمة حقوق، ثم انتقلت نفس العدوى للإعلام البديل؛ وازداد الطين بلة، واختلت موازين العرض والطلب في سوق الثقافة والفنون. ونلاحظ أن بعض أجهزة البث تتهرب من دفع الحقوق لأصحابها بحجة عدم امتلاكها للأموال، وقد يضطر بعض المبدعين الموافقة على بث إبداعهم مجانًا وبدون مقابل مادي؛ علما بأن الأغاني والمدائح والمسرحيات وخلافها، هي من تستقطب لها الجمهور، وتجذب إليها شركات الدعاية والرعاية والإعلان؛ ولولا الثقافة والفنون والفكر والإبداع لأغلقت تلك الأجهزة أبوابها، ويفترض بها أن تحفظ الحقوق لأصحابها، فمن استُنفِعَ عليه أن ينفع. وقد استمر الواقع الثقافي إلى هذا الحجم من التردي إلى أن ظهر مجلس المهن الموسيقية والمسرحية كمراقب للوسط الفني، وكضابط للهرج والمرج الحاصل في الساحة؛ فاستبشر الناس خيرًا بقدومه، لكونه قد ألزم الدولة بضرورة الاعتراف بمهنة الفنون؛ ليتم تقنينها في البطاقة القومية وجوازات السفر. وبموجب الصلاحيات الممنوحة له؛ شرع المجلس في منح التراخيص والشهادات، لكل من استوفت عليه شروط مزاولة المهنة، من المسرحيين والفنانين والعازفين والملحنين والفرق والجماعات الشعبية والحديثة. ورغم مجهوداته العظيمة، إلا أن حمار الشيخ وكعادته ما يزال واقفًا في العقبة، حيث واجهتهم جملة من العقبات والمتاريس، لم يتمكنوا من حلها، ومن ضمنها: الميزانية والمقر والشرطة والمحاكم والقوانين والعربات والمرتبات والتوظيف والتأهيل والتدريب وإلخ… فحكومة الإنقاذ أجازت قانون المهن الموسيقية والمسرحية، ولم توفر الآليات الكافية لتنفيذه. كأنها فعلت ذلك من باب الترضية (عدي من وشك). ويفترض عليها أن تتعامل بكل وضوح وشفافية مع موظفي مجلس المهن الموسيقية والمسرحية؛ لإيجاد مخارج آمنة تسهم في تجويد العمل.
يعتبر السودان من ضمن الدول المصادقة على قوانين الملكية الفكرية، والغريب في الأمر نلاحظ أنه وبرغم تنوع ثقافاته وتعدد أقاليمه واتساع رقعته الجغرافية، إلا أن مقومات الإبداع تتوافر في العاصمة القومية بعيدًا عن مراكز الإنتاج الثقافي الحقيقية المنتشرة في بقية المدن والولايات. حيث يمتلك السودان محكمة واحدة للملكية الفكرية في الخرطوم، ومجلسًا واحدًا للمصنفات الأدبية والفنية في أم درمان، وكلية واحدة للموسيقى والدراما في السجانة، وكلية واحدة للفنون الجميلة في الخرطوم، يتهافت إليهن المبدعون من كل ولايات السودان، لأغراض الدراسة والتعليم والتقاضي والتصنيف وحفظ المؤلفات وإجازة النصوص والأصوات وتسجيل براعات الاختراع. وكان من الأحرى للدولة، أن تنشئ محاكم للملكية الفكرية، ومجالس للمصنفات الأدبية والفنية، وكليات للموسيقى والدراما والفنون الجميلة في كل إقليم، تخفيفًا لأعباء السفر والإقامة التي يصرفها المبدعون القادمون من الولايات للخرطوم.
وهنالك نقطة مهمة تجدر الإشارة إليها، وهي أن غالبية المبدعين الذين يلجأون إلى محكمة الملكية الفكرية، لا يملكون رسومها، وقد تتأخر إجراءاتهم حال قاموا بتقديم طلب مقاضاة بدون رسوم؛ وينبغي على محكمة الملكية الفكرية أن تعيد النظر في المواد القانونية المتعلقة برسوم التقاضي المفروضة على المبدعين، على أن تعفيهم كليًا من سداد الرسوم، تقديرًا لظروفهم الاقتصادية الصعبة. وعلى الدولة أن تسعفهم في عمليات الإنتاج بالقدر الذي يسمح بتحويل الفنون إلى مورد اقتصادي قومي يرفد خزائنها بالعملات الأجنبية.


إرسال التعليق