ياسمين آدم المصري : القصص الجماعية: ذاكرة الشعوب في زمن الحرب
في أوقات الحرب، تصبح الذاكرة الجماعية هي الحصن الأخير الذي يحمي المجتمعات من النسيان والاندثار. الحروب لا تدمر المباني والبنية التحتية فقط، بل تمتد لتقويض الروح الجماعية، ولإسكات أصوات المهمشين الذين لا يجدون من يوثق تجاربهم أو ينقل معاناتهم إلى العالم. هنا تبرز أهمية القصص الجماعية، فهي ليست مجرد روايات تحكى على سبيل التسلية، وإنما شهادات حية على المعاناة، ووسيلة لمقاومة التهميش، وصوت يواجه محاولات الطمس والإنكار.
الروايات الجماعية تمثل شكلا من أشكال القوة المعنوية، لأنها تحفظ تفاصيل الحياة في ظل النزاع، وتعيد صياغة المآسي إلى دروس وعِبَر. عندما يتشارك الناس قصصهم، فإنهم لا يسردون فقط ما حدث، بل يعلنون رفضهم للصمت، ويتمسكون بحقهم في أن تسمع أصواتهم. هذه القصص تجعل من المعاناة الفردية تجربة جماعية، وتخلق وعيا مشتركا يربط المجتمع ويعزز من قدرته على الصمود. فهي بمثابة جسر يربط الماضي بالحاضر، ويحمي الأجيال القادمة من أن تعيش في فراغ الذاكرة
.
في المجتمعات التي تعاني من الإقصاء والعنصرية بأشكالها المختلفة، تصبح الروايات الجماعية أكثر إلحاحا. فهي الأداة التي تمنح المقهورين فرصة التعبير عن مظالمهم، وتكشف كيف يمارس التمييز الثقافي والجغرافي بطرق صامتة قد لا توثقها المؤسسات الرسمية أو الإعلام. عبر هذه القصص، تتحول التجارب المؤلمة إلى مادة للمساءلة، وإلى أساس يمكن أن يبنى عليه وعي جديد يرفض التمييز ويطالب بالمساواة. إن امتلاك الشجاعة لسرد هذه الحكايات هو فعل مقاومة في حد ذاته، لأن النطق بالحقيقة أمام محاولات التهميش هو أصدق أشكال النضال.
الشباب على وجه الخصوص، لهم دور مركزي في حماية هذه الذاكرة وصياغة مستقبلها. عندما يشارك الشباب في جمع القصص وتوثيقها، فإنهم لا يحفظون فقط ما مضى، بل يشاركون في صياغة هوية جماعية جديدة تستند إلى الاعتراف بالمظالم والعمل على معالجتها. إن تشجيعهم على الانخراط في هذه العملية يعني زرع قيم الصمود والعدالة، وإشراكهم في مهمة نبيلة تعطي حياتهم ومعرفتهم معنى يتجاوز حدودهم الفردية. وبهذا، يصبح التوثيق فعل تربوي وثقافي يسهم في تشكيل جيل أكثر وعيا بحقوقه وأكثر قدرة على الدفاع عنها.
إن الدعوة إلى توثيق القصص الجماعية ليست مجرد نداء لحفظ الماضي، بل هي أيضا دعوة للتمسك بالعدالة والإنسانية في الحاضر، وبناء مستقبل أكثر إنصافا. كل قصة تُروى هي شهادة ضد النسيان، وكل صوت يُسمع هو خطوة نحو الاعتراف بالحقوق، وكل ذاكرة تُحفظ هي مساهمة في مقاومة الطمس وإعادة كتابة التاريخ من منظور الناس العاديين. توثيق هذه التجارب هو مسؤولية جماعية، ودعوة للجميع أن يتحلوا بالشجاعة ليشاركوا بما لديهم من روايات، وأن يحموا ذاكرتهم من الضياع.
فالقصص الجماعية ليست رفاهية ثقافية، بل ضرورة إنسانية، وهي السلاح الأصدق في مواجهة الظلم، والعلاج الذي يمنح الأمل للمستقبل. إن توثيقها هو وعد للأجيال القادمة بأن معاناة اليوم لن تُنسى، وأن دموع وآلام الناس لن تذهب سدى، بل ستبقى حية في ذاكرة الأمة لتكون مصدر قوة وإلهام، ودليلًا على أن الحقيقة مهما حاول البعض إسكاتها ستظل تنبض في كلمات وروايات لا يمكن محوها.



إرسال التعليق