محمد الحبيب يونس :(قراءة نقدية ) نشيد العودة: بين عبث الأمس وعبثية اليوم للشاعر أنس عبدالصمد نجم
نبذة عن الشاعر:
أنس عبدالصمد نجم شاعر سوداني معاصر مواليد 1992
درس كلية الإعلام وعمل في الإذاعة وعدد من الصحف والمجلات أبرزها صحيفة الزول والوجود المغايير.
فاز بعدة جوائز منها جائزة بيت الشعر للشعر الفصيح.
شارك في مهرجان الخرطوم للشعر العربي.
له ديوان شعري مطبوع بعنوان تمائم أبنوسية.
ملاحظة
هذه المقاربة تسعى إلى استنطاق النص وتفجيره دلالاته وذلك بتركيز على الصورة الييانية وما تحمل من طاقات تعبيرية.
العنوان
نشيد العودة
العنوان نحويا:
- مبتدأ محذوف يمكن أن يقدر ب(هذا ) والمشار إليه يكون النص ذاته ، ويمكن أن يقدر ب(هو) أو غيره ..
- خبر مبتدأ وهو (نشيد) ومضاف إليه (العودة).
أما في بنيته الداخلية فالعنوان يشير إلى أن النص يشكل جسراً بين الراهن والذاكرة ، تلك الذاكرة التي تبرز في النشيد (الشعر)بشكل حيوي . ويمكن القول أن العنوان في لاوعيه يحمل ملامح لمحمد عبد الحي العودة إلى سنار .
1- تداعي الذكريات
(( وأنا واقف وسط باديتي
والحنين على القلب ينتهج القرفصا
وتخضر عيناي من حاملات الجرار
وترتاح في كتفي العصا
كلما امتلأت جرة دق قلبي
فكيف أحرض ماء الجرار بأن بنقصا
أصفِّرُ من دون قصد فيرقص فوق التلال الحصى))
تبدأ القصيدة بتداعي صور الذكريات ،حيث الشاعر يقف وسط البادية ممتلئاً بالحنين والصبا، تأثر عينيه الفتياتُ اللائي يردن لجلب الماء، لذلك لا يريد أن تتملأ جرارهن حتى يستمر هذا المشهد الجميل .
-لجأ الشاعر لوصف هذا المنظر وما يحمله من شعور إلى تكنيك الانزياح؛فأعطى المجرد صفة مادية ، فالحنين رجل يجلس القرفصاء وهذه الصورة بالإضافة لوظيفتها في تجسيد الحنين ، أضاءت لنا نفسية الشاعر وأشاعت شعور البهجة والراحة واللا مبالاة في فضاء الصورة ، فجلوس الحنين القرفصاء يشير أنه حنين يتلذذ به الشاعر وليس حنينا مؤلماً ،فتصوير الحنين بأنه يجلس القرفصاء يجسد الاريحية واللا مبالاة التي يعيشها الشاعر. وهذا المعنى يتسق مع قولة الآتي :
(وتخضر عيناي من حاملات الجرار… ) فهو لا يحب فتاة بعينها بل يحب هذا المنظر الذي يملأ عينيه بالحياة ، وهذا الامتلاء بالطبيعة الخضراء عبَّرَ عنه الشاعرُ بصورة استعارية غاية في التكثيف والإضاءة وهي (تخضر عيناي) فكان يمكن أن يقول تتملأ عيناي بمناظر الطبيعة ولكنه عدل عن ذلك إلى هذا الانزياح (احضرار العينين) لأنه أكثر إضاءة للصورة الموضوعية في الواقع وأكثر تفجيراً لجو الشاعر النفسي ،إذ يُقرب ظلَّ هذه الصورةِ في نفس الشاعر ؛ فالإستعارة (تخضر عيناي) تعكس الطبيعة الخضراء في الواقع ، وكذلك تعكس هذه الاستعارة الحالة النفسية للشاعر وموقفه من طبيعة البلدة ، فهو يرى أنه يستقي حياته من هذا المنظر وكأن عينيه قبل هذا المنظر في حالة جدب وجفاف وهذا المنظر هو ما يعيد الحياة إلى الشاعر .
— ( “أصفر من دون قصد تؤاذرني بالهديل القماري ويرقص فوق التلال الحصى ) هذه المبالغة أيضاً تكشف لنا جوانب نفسية بعيدة في أغوار الشاعر حيث تصور حيويته وامتلاءه بالفتوة و بالسعادة وكأن الكون ملك يديه ، فؤازة القماري له صورة حسية فيها مبالغة تصور شعور الشاعر بامتلاك زمام الأمور وهذا الشعور متناسب مع عمر الصبا والطيش ، وكذلك نجد لهذه الصور ( رقص الحصى من التصفير) على الرغم من كونها خيالية لها- نجد معادلا موضوعيا ألا وهو زهو الشاعر بصباه وفتوته ، فشعوره بالقوة والفتوة هو ما جعله يتصور أن الحصى يرقص من تصفيره ، فهتان المبالغتان في البنية السطحية أضاءتا أعماق الشاعر المنطوية على نرجسية حميدة ملأى بزهو الصبا وقوته، وهذا المعنى يتسق مع الصور السابقة.
2- صورة البلدة بعد المطر
(( أرى غيمة غسلت وجه قريتنا
وأعادت لنبض الجروف الدماء
وجاءت محملة بالهدايا
من البرد المتوهج وهو يغازل أطفالنا
ويذوب بأفواههم فيذوقون حلوى السماء. ))
في هذه الأسطر يجعل الشاعر مسافة بينه وبين البَلدة (برام)حتى يعطي المتلقى صورة من بعيد عنها لتكون أكثر اتساعاً ودقةً .
وصفها بعد المطر إذ تتجدد الحياة فينتعش الأطفال ببرد المطر ، واستخدم عدة انزياحات لذلك منها:
- (غيمة غسلت وجه قريتنا ….)شخص الغيمة وجعلها تغسل كما شخص القرية وجعل لها وجها يُغسل معبراً بذلك عن هطول المطر وتجديده للحياة الذي عبر عنه بالاستعارة( أعادت لنبض الجروف الدماء) ،
- ومن الانزياحات التي أضاءت بكثافة الحالة الشعورية للأطفال قوله: (البرد المتوهج) فثمة توتر عميق بين المحمول والموضوع
فاعطاء صفة النار للبرد متناقضة في ظاهر ولكنها في بنتيها الداخلية تكشف حالة شعورية عاشها الشاعر وكل من خرج اثناء المطر وهي نقر البرد للجسد إذا يكون الإحساس به كاللسع خصوصاً إذا كان شديد البرودة.
3- رحلة الغربة والرؤية العبثية
((هكذا يا برام هنا هكذا بللتني
الشجون السجون وأتعبني في لظى غربتي الانتماء
وأنا من أنا غير راع طموح أضاع سعيته
في سطور الكراريس تاهت على ورق أبيض كالصحارى .))
خاطب الشاعر بلدته(برام) بإداة مختصة بنداء البعيد (الياء) وذلك لتجسيد المسافة بينه وبينها. وشكى لها حاله وما أصابه من التعب في الغربة كما شكى لها تلاشي أحلامه وتكسرها بالواقع مستخدماً في ذلك الانزياح نحو:
(ببلتني الشجون..) إن كان البلل في المقاطع السابقة يشير إلى الخير والفرح فهو هنا استعارة جسدت المعاناة النفسية في صور مادية محسوسة وهي (البلل) الذي يمكن تأويله بالدمع والحزن والتعب..الخ .
(لظى غربتي) أعطى الغربة وهي شيء مجرد طابعاً مادياً ، إذ منحها صفةَ النار ،معبراً بذلك عن شعوره بقسوة الغربة والخال النفسية التي يعيشها فيها.
-(وأنا غير راع أضاع سعيته في سطور الكراريس… ) هذه الصورة في كليتها تعبر عن ضياع أحلامه التي رسمها في الصبا وتجسد وتضيء موفقه ذا التصورِ العبثي عن حياة ، فضياع سعيته ، يمكن تأويله بتلاشي الأحلام وكذلك برؤيته العبثية الى الجود ، وهذا المعنى يتسق مع الأسطر التالية:
((أهرول في شارع العدمية لم ألتق غير نيتشه
على مسرح أيدلوجي يحرك ألباب بعض الحيارى
ودي صاد يجلس منفردا في كراسي الجماهير
في كوبه مقلتان ودمع تَمَصّرَهُ من وجوه السكارى))
هنا يصرح صراحة بموقفه العدمي من الوجود ، إذ يلتقي بنتيشه ويراه هو يحاول إنعاش الراكض من العقل البشري ، كذلك يرى (دي صاد) المولع بالأفعال السادية يمارس ساديته أمام الملأ وكأنه يحارب بذلك المثاليةَ المزعومة محاولاً بذلك إنزال البشرية إلى الأرض.
4- خاتمة القصيدة
(( فظيع طريقك: قال صدى الصوت
وهو يحدق في داخلي من بعيد
تمشيت صوب الوجود وأهلكني ظمإي للوجود
على خلسة من مروري على الدهر
قابلت عروة وهو يقسم للفقراء نبيذ الخلود
ويصب القراح على جوع إمعاءه، ويعود
ولكنني يابلادي التي أرهقتني غيابًا وأرهقتها بالوعود
لكل رحيل كتاب مسمى وكل غريب في يوم يعود.))
تتواصل النبرة العدمية في هذه الأسطر ، فالشاعر ينظر نظرة أفقية للتاريخ (الصدى) لصقل تجربته بضوء التجاربة السابقة فيصل إلى نتيجة وهي عسر الطريق وصعوبته .كذلك استدعي من التاريخ العربي شخصية (عروة بن الورد) ووظفها للتعبير عن جانب الخير في الحياة ، فعروة هنا رمز دال حر يجسد حالة الفناء والتضحية لأجل الآخر بشكل مطلق ولا يشير لشخصية بعينها .
يختم قصيدته بما بدأ به (موضوع البلدة) ويناديها بالياء أيضاً مما يعني أنه مازال يحس ببعده واغترابه عنها يخاطبها لائماً إياها ، و معتذراً لها على وعوده الكاذبة ، مطمئنا إياها بأن كل رحيل له يوم وينتهي . وكل غريب سيعود يوماً. وهذه الغربة تذكر بغربة السياب عن جيكور وربما هذان السطران الأخيران يحملان في لاوعيهما بعض ملامح السياب .



إرسال التعليق