طه محمد علي : إيقاع القرية المنتظم - صوت الوحدة

طه محمد علي : إيقاع القرية المنتظم

نص قصصي

في مساء من مساءات القرية الهادئة، برتابة جوها الذي يصرخ بنيران الحنين. نرى الأطفال يلعبون، وبعض نسائها يعدن من مورد المياه (المشيش) في عمل روتيني يبدو كسمفونية منتظمة الإيقاع يومياً دون أن يخل أحد بها. تكسو شمس الغروب بلونها الذهبي الذي يتسلل من بين فتحات الصريف، فيبدو كقطع ذهبية متناثرة على الأرض.
ثوب القرية الأكثر جمالاً، وروحها الخاصة كأم حنون تستعد لتغطية أبنائها ليغطوا في سبات عميق في حضنها الدافئ، دون الانتباه لصخب الدنيا وفوضى البلاد. هي، وإن كانت رقعة جغرافية صغيرة لا توجد في خارطة الوطن السياسية، تملك مركزية خاصة عند أهلها.
وأنا أسير في شوارعها التي ينتابني فيها نسيم يفوح بعطرها الخاص، فأنا أنتمي إلى هذا المكان بكل عواطفي حد الحب. أنا أعشق تفاصيلها التي تنضح بدماء الحياة أكثر من كل شيء في بلادي التي صارت أرملة حرب.
بينما أسير نحو الحديقة، فجأة وجدت نفسي أمام من أنا ضعيف أمام نظراتها. التقينا صدفة عابرة تحت شجرة المانجو، أتت بمشيتها الغزلانية واقتربت مني ببسمة تحفر على خدها الأسمر تلك الوجنة الساحرة ببريق عينيها. كانت ترتدي عباءة سوداء لها ربطة في المنتصف. تأملت في خصرها الممشوق، وتوأم ينام على صدرها بثبات. وقفت أمامي دون أن تحيد نظراتها عني، وتنهدت بصوت تملؤه الرقة، وسحر الأنوثة الذي لا يقاوم.
كان لدي إحساس بأني سألقاك، بعد أن تمردت على اللغة وسحبت ارتكازاتها من ذاكرتي، وبعبارة احتقرتها أنا لأنها غير جديرة لا تكفي لإنصاف ذاك الجمال، وخرجت من فمي دون أي ترتيبات: “أنا عند نفس الإحساس يا ست البنات”.
ردت قائلة: “أنا عند نفس الإحساس يا ست البنات”.
أو
لم أستطع الرد، فقد فقدت الذاكرة أمام عينيها، وتهرب الكلمات مني كطيور أفزعها صياد بهجوم مفاجئ. قالت: “عليَّ أن أذهب فالوقت تأخر”. سألتها: “متى نلتقي؟” أجابت: “عندما تعد لنا الصدفة لقاء عابراً دون قيود ولا لوعة انتظار، وفي المرة القادمة سأحرص على اقتناء هدية هي صدفة لتعرف زمنها، لكن عندما نلتقي سنوقع على وثيقة الحب”.

إرسال التعليق

لقد فاتك