ياسمين آدم المصري : قراءة في كتاب “قصتي مع أسوأ كارثة في العالم” للكاتب محمود الشين
يأتي هذا الكتاب باعتباره شهادة من الداخل عن واحدة من أعقد مراحل الصراع في دارفور، حيث ينقل المؤلف مزيجا من تجربته الشخصية ومشاهداته الميدانية، في محاولة لرصد تفاصيل الحرب، وأبعادها السياسية والاجتماعية، وتشابكاتها الإقليمية. إلا أن قوة الكتاب لا تكمن فقط في كونه رواية ذاتية، بل في كونه وثيقة تتقاطع فيها شهادات شخصيات محورية مع تحليلات الكاتب، مما يمنحه ثقلا توثيقيا مهما، رغم ما يعتريه من ثغرات في التناول.
العنوان والغلاف بين الإيحاء والمطابقة
يمنح عنوان الكتاب “قصتي مع أسوأ كارثة في العالم” انطباعا أوليا بأن القارئ أمام عمل شامل يتناول مأساة إنسانية كبرى تتجاوز حدود الإقليم، لكن المضمون يتركز على أزمة دارفور في سياقها السياسي والاجتماعي والإقليمي. هذا التباين بين شمولية العنوان وخصوصية المضمون قد يخلق فجوة في توقعات القارئ، خاصة أن النص أقرب إلى شهادة ميدانية موثقة من أن يكون رواية عن “أسوأ كارثة” بمقياس عالمي .أما الغلاف، بلوحته التي تجسد وجها مشوه الملامح بأسلوب فني تجريدي، فيحمل دلالة بصرية مبهمة لا تعكس جوهر العمل التوثيقي ولا سياقه السياسي. الصورة تحصر الانطباع في إطار المأساة الفردية أو المعاناة المجردة، بينما النص يتناول شبكة معقدة من الأحداث والأطراف والمصالح المحلية والإقليمية. كان من الممكن أن يوظف الغلاف رموزا أقرب إلى بيئة دارفور أو صورا من مشاهد الحرب وملتقيات السلام التي كان الكاتب حاضرا وفاعلا فيها، ليكون أكثر التصاقا بالرسالة المحورية للكتاب. وبهذا، فإن التناقض بين العنوان، والغلاف، والمحتوى، يضعف الأثر الأول الذي يفترض أن يشد القارئ إلى العمل قبل أن يفتح صفحاته.
محورية الشخصيات والشهادات المغيبة
يكشف الكتاب دور شخصيات محورية في أحداث دارفور، من أبرزهم اللواء إبراهيم سليمان، الذي التقى قادة الحركات المسلحة متحليا بأخلاقية عالية في كل ما يتعلق بضمان أمنهم، فأوفى بوعوده ورفع مطالبهم إلى الخرطوم. لكن الأخيرة لم تبدِ اهتماما جادا، ووصفتهم بـ “قطاع الطرق”، رغم أن اللواء أكد أنها مطالب تنموية بحتة. هذا التجاهل، إلى جانب إصرار الحكومة على تسليح بعض القبائل الرعوية، دفع اللواء إلى الإسراع بعقد ملتقى الفاشر، الذي جمع أكثر من 400 شخصية من طيف واسع من السودانيين؛ بين معارضين، ومفكرين، ومثقفين. أراد اللواء أن يضع القضية في نطاق وطني أوسع، خارج حدود مسؤوليته الفردية، بحثا عن حل جماعي للصراع.كان من الممكن ان تسجل شهادته في الكتاب لا هذه المرحلة كانت دقيقة ومؤثرة، لا مجرد تعليقات عابرة بينه وبين الكاتب . خرج الملتقى بتوصيات مهمة، من أبرزها تشكيل ثلاث لجان ميدانية لزيارة قبائل المناطق المتأثرة بالصراع لإيجاد حلول سلمية، لكن الخرطوم لم تستجب، متمسكة بخيارها في إنهاء ما تسميه “التمرد” وهو ما يصفه آخرون بـ “الثورة المسلحة” أو “الكفاح المسلح”. وتمضي الحكومة في سياسة “قبلنة” الصراع، تزايدت الخسائر التي ما زال الإقليم يعاني آثارها حتى اليوم.كما يسلط الكاتب الضوء على أدوار الدول الإقليمية التي حضرت المشهد بقوة، وعلى رأسها ليبيا، وتشاد التي شاركت الخرطوم رغبتها في القضاء على التمرد، خشية على استقرار نظامها، وخوفا من تدخل الخرطوم في زعزعة أنظمة أخرى. مرورا باتفاقية وقف العدائيات الموقعة في أبشي، التي اعتبرتها بعض الدول ومنها إرتريا التي كانت تحتضن معارضي النظام السوداني مجحفة بحق الحركة المسلحة. لكل دولة أجندتها ومصالحها التي راعتها في هذه الحرب، وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى أن يتضمن الكتاب شهادات قادة هذه الدول، باعتبارها جزءا من العمق الإقليمي المؤثر على مسار أزمة دارفور. لكن الكاتب أغفل هذا الجانب، تاركا فراغا مهما في الصورة الكاملة للأحداث.
القصة كشهادة لا بد منها
من حيث البناء السردي، يعد الكتاب شهادة ضرورية، إذ أضاء على تفاصيل وأحداث قد لا يعرفها عامة الناس، وعلى أسماء كان لها تأثير كبير في مسار الصراع. إلا أن غياب وجهات نظر هذه الشخصيات والاكتفاء برؤية المؤلف جعل السرد أحادي الصوت. كما لم يتضمن النص حوارات مباشرة مع قادة الحركات، أو ممثلي الحكومة، أو حتى سكان مناطق النزاع، مما جعل الصورة النهائية تفتقر إلى التوازن.
هذه القصة لا تحتمل شهادة واحدة، وكان بالإمكان أن يلاحق الكاتب مصائر بعض الأسماء التي وردت في كتابه لنعرف كيف أثرت عليهم تداعيات هذه الحرب. أما على المستوى اللغوي، فالسرد يحتاج إلى عمق أكبر، مع تجنب الجفاف والتكرار، والحرص على نقل إحساس القارئ بأنه كان حاضرا في ملتقى الفاشر أو طرابلس، لا أن يكتفي بصورة مسطحة للأحداث.
مأساة الرعاة: الضحية والجلاد
من الجوانب التي كان يمكن أن ينصفها الكتاب أكثر هي مأساة الرعاة، فهم أيضا جزء من النسيج الاجتماعي لدارفور، وقد طالتهم تداعيات الحرب. صحيح أن بعض القبائل الرعوية تحالفت مع السلطة لإنهاء التمرد، إلا أن الحركات المسلحة ارتكبت بدورها عمليات قتل وسرقة ماشية استهدفت أبناء هذه القبائل. ومن المهم إدراك أنه في هذه الحرب لم يكن هناك ضحية دائمة ولا جلاد دائم، بل دائرة من المعاناة شملت الجميع.
المرأة بين التحفيز وإشعال النيران
أحد الجوانب اللافتة في الكتاب هو حضور المرأة كرمز متعدد الأبعاد. فقد صورها الكاتب تارة كقوة معنوية تدفع المقاتلين، وتارة أخرى كجزء من منظومة “الحكامات” اللواتي يسهمن في إذكاء روح القتال بشعرهن وأهازيجهن.وهذا يفتح باب للنقاش حول ازدواجية الصورة النسوية في النص. هل هذا توصيف موضوعي؟ أم انعكاس لتصور الكاتب نفسه؟ وهل يحق للكاتب أن يصدر أحكاما من موقع الشاهد دون مساءلة خطاب السلطة أو الحركات بشكل متوازن، و غياب أصوات النساء أنفسهن، سواء كداعمات أو كضحايا، جعل الصورة منقوصة. فالمرأة في دارفور لم تكن مجرد أيقونة، بل فاعل أساسي في مسار الحرب والسلام، وكان من المهم أن تنعكس هذه الأدوار بأصوات أصحابها لا من خلال عدسة الراوي وحده.
خاتمة
يظل هذا الكتاب عملا مهما لتوثيق لحظة فارقة في تاريخ دارفور، لكنه يترك لدى القارئ إحساسا بأن بعض الزوايا بقيت في الظل، وبعض الأصوات لم تجد طريقها إلى الصفحات. هو شهادة قيمة، لكنها بحاجة إلى توسيع دوائر الحوار، وفتح المجال لتعدد الأصوات، وربط المأساة بسياقها الإقليمي والدولي، حتى تكتمل الصورة أمام القارئ الباحث عن الفهم لا الاكتفاء بالسرد.



إرسال التعليق