محمد الحبيب يونس : البحث عن المطلق وعقبات الواقع مقاربة سيميائية لقصيدة نهايات شاحبة العلو للشاعر الواثق يونس
العنوان:
إن عنوان النص”يمنح القارئ الفكرة الأولى عنه”. العنوان هنا جملة اسمية حذف منها المبتدأ وأبقي الخبر وصفته ف “نهايات ” قد تكون نهاية أزمنة ووصفها ب(شاحبة العلو) يدل على غياب تلك الأزمان وحضورها في آن واحد؛ فالشحوب يشير إلى الغياب والتلاشي، والعلو يدل على الظهور والبروز،ولمعرفة سر هذا التناقض لا بد من النزول للنص:”دنيا وتاريخ يُرقِّص خيلَه في مسرح الأزمان طين يهتف /ونقوش من وشموا الحياة بصبرهم غنوا مواويلَ الخلودِ وطوفوا”
هذان البيتان جاءا في سياق وصف الماضي وخلود أصحابه في ذاكرة الحاضر،فالملاحظ أن البيتين يدلان على غياب وحضور في آن،أي حضور الغائبين كذكرى في الحاضر وبناءً على ذلك يمكن أن تأويل(شاحبة العلو) بالغائبين الحاضرين في الذاكرة.
البنية العاملية:
تكمن أهمية هذه البنية في ” أنها قادرة على أن تكشف عن نظام المخيال البشري،الذي هو انعكاس لعالم جمعي أكثر منه انعكاسا لعالم فردي”.ومن خلالها تسعى الدراسة لتوضيح الفكرة الكلية للنص. يجسد النص ثنائية الواقع-المثال،إذ تكشف أبياته عن سعي الشاعر للتحرر من عالمه الموضوعي والتماهي مع العالم المثالي،إذن فالقصيدة من جهة ما تمثل حالة صوفية تحاول التخلص من أعباء المادة و تتعلق بالمطلق الذي يمثل العالم الحقيقي بالنسبة للشاعر في حين يمثل الواقع المادي مجرد عرض زائل كما نلمس ذلك في البيت: ” قلت الخيال حقيقتي وقصيدتي لكنني لطفاً بطيني أوصف “
وتتبين الفكرة أكثر من خلال هذه الخطاطة :
المرسل/ الدافع.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرسل إليه/المستفيد
النزعة الصوفية،الحنين للماضي الشاعر.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالموضوع
الشاعر المثال(الأزل ،الأبد،الماضي )
المعيق.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المساعد
قوانين الفيزياء الشعر ، الذكريات
فالذات تسعى للوصول لموضوعها وهو عالم المثال ،والدافع لذلك هو النزعة الصوفية وجماليات الماضي التي تغري الشاعر ، ويساعد على تحقيق هذا الموضوع الشعرُ بوصفه سموا عن الواقع ـوالذكرياتُ ، ويعيق تحققَ هذه الرغبة طبيعةُ العالم الموضوعي التي لا تسمح بتجاوز أُطر الزمن.
البنية الدلالية:
1ـــــ المثال الميتافيزقي:
“ناديتُ قال الوقت ليتك تعرف فنداك أندى من رؤاك وألطفُ”
تكمن القيم الفنية للعلامة(الوقت) في تجريده،وتشخيصه في آن،فهو من ناحية دال مجرد يؤشر على مجال واسع : (ماض حاضر مضارع، ذكرى ، حلم ..)،ومن ناحية أخرى فقد أعطته تقنية التشخيص القدرة على الحوار ومن ثم التعبير عن موقف شعري يتسم بالتشاؤم،وذلك لأن وصف العلامة (نداء)المُحيلة هنا على الرجاء والأمل بأنها أندى من الرؤى (الحلم) يعد علامة توحي بالنذير والتطاير من الآتي،فقد ساهم هذا الحوار في الكشف عن رؤية الشاعر للمستقبل التى ترى أن انتظار الأحلام أجمل من تحققها كما يدل على ذلك عجزُ البيت.
” حلقتُ غيض الطينُ وانفرط الصدى فكأنني قد كنت قبلاً أعرف”
في هذا البيت نجد أن الشاعر قد دخل في تعالق مع الآية (ألست بربكم قالوا بلى) ، حيث نلمح ظلاً لهذه الآية في قوله: ” وكأنني قد كنت قبلاً أعرف”إذ يشير الظرف(قبلا)إلى الأزل ويحيل
الفعل (أعرف) إلى معرفة الخلق بربهم في الأزل.
ويمثل هذا البيت لحظة بينية تصور الشاعرِ وهو يتجاوز عالم المادة للعالم المثال حيث كان موجوداً من قبلُ، وقد لجأ إلى الاستعارة والرمز كعلامتين سيميائيتين لترسيم هذه اللحظة الخيالية ، فاستخدم الرمز (الطين) ليرمز للمجال الدلالي التالي (الواقع ، المادة ، الجسد ) واستخدم الرمز الصدى ليشير إلى هذا الحقل:(الأبد،الروح،المطلق،اللامتناهي،الحلم ).واستخدم الاستعارة (حلقتُ) للتعبير عن تجاوز بنية الواقع،(وغيض الطين) ليصف انحسار الواقع المادي،(وانفرط الصدى) للتعبير عن انتشار عالم المثال وامتداده في تلك اللحظة.
” قلت: الخيال حقيقتي وقصيدتي لكنني لطفاً بطيني أُوصف”
عبر في هذا البيت عن انتمائه للعالم المثالي بوصفه الحقيقة الأبدية بالنسبة له، تلك الأبدية التي يقابلها الواقعُ المؤقتُ كنقيض،وقد عبر عن ذلك بالتشبيه (الخيال حقيقتي) والملاحظ أن العلاقة بين طرفي التشبيه شديدة التوتر ولكن لأن الشاعر أراد قلب المعطيات؛جعل الخيال لأنه -هنا – رمز لعالم المثال – جعله جوهرَ الحقيقةِ بالنسبة له،وجعل الطين الذي يشير للواقع المادي عرضاً زائلاً وذلك لارتباطه بالكيفيات التي يتضمنها الفعل (أُوصف).
“غدي القريب مجرةٌ مجهولةٌ وبعيديَ الآتي أشف ُوأرهفُ”
عمد للمقابلة والتشبيه لتصوير حالته النفسية المتأرحجه بين معرفته بالأبد وجهله بغده في هذه الدنيا ، فجسد بالصورة “غدي الفريب مجرة مجهزلة”، عدم معرفته بغده الداخل إطار العالم الحسي وحيرته مما سيكون فيه، بينما جسدت الصورة القابلة (وبعيدي الآتي أشف وارهف) معرفته اليقنية لما بعد الموت أي عالم المثال وهذه الصورة تشاكل دلاليا عجزَ البيت الثاني (وكأنني قد كنت قبل أعرف)،إذ يرى كما أسلفنا أنه كان يعرف العالمَ الأبدي من قبل.وهذه المفارقة تبرز موقف الشاعر من موضوعه/الواقع والمثال،حيث يمثل الواقع عنده الشكوك والعمى والجهل ويترتب عن ذلك قلق وجودي واضطراب،أما المثال فهو يمثل للشاعر اليقين والوضوح والمعرفة وينتج عن ذلك الرضا والراحة والطمأنينة في الحياة الأبدية.
2ــ الحاضر ومحاولات التجاوز:
“كل انتظارٍ سوف يعلن أنه غيم الهوى والقلب قاعٌ صفصف”
تحيل العلامة(سوف)إلى مستقبلٍ ما،وهوـ حسب معطيات البيت ـ مستقبل مثالي مفعم بالجمال،وذلك لأن البيت يرسم صورة مشرقة لهذا المستقبل فالانتظار حسب ما توحي به الاستعارة:(كل انتظار سوف يعلن أنه غيم الهوى)سوف يثمر وينعش وقلب الشاعر بالحب،كما نلمح في توصيفه للقلب ب ” قاع صفصف”،تعالقا مع الآية(فيذرها قاعا صفصفا)فقد وظف الشاعر الطاقة الدلالية للآية لتصوير افتقار قلبه في الحاضر،وذلك ما ينعشه” لغيم الهوى” في المستقبل
“وسيمطر العشق القديم وينتمي هذا الرهان لعزلتي ويسوف
صبر ووعي زئبقي ماله غير التحول في التخيل موقف “
وتشاكلا مع للصورة السابق يرسم البيتان عبر شبكة من العلامات مشهداً لعودة الماضي بكل حيويته في المستقبل،وكيفية تحول الشاعر من عالم الحس إلى عالم المثال؛فالصورة (سيمطر العشق القديم..)تجسد عودة الماضي وحيويته في المستقبل،فحرف التنفيس يشير إلى المستقبل، الذي سيكون فيه الفعل(يمطر)المحيل إلى معنى الحيوية والإرواء،وترمز العلامة”العشق القديم ” الى حبيب غائب،ربما كان شخصا،أوغيره فقد يكون إشارة إلى المطلق الذي كان يعرفه الشاعر في الأزل وهذا التأويل الأخير يتسق مع قوله السابق:(وكأنني قد كنت قبلا أعرف)
_وفي البيت (صبر ووعي..)ترسم العلامات كيفية تحوله من عالم الحس إلى عالم المثال
وذلك عبر”صبر ووعي ” يتصف بالمرونة والقدرة على التشكل كما تدل على ذلك العلامة (زئبقي) التي وُصف بها الوعي فهي تجسد مرونة الوعي التي تجعله قادرا على التشكل والتخطي،ويتضمن البيت عجز الشاعر من التحول الحقيقي إلى عالم المثال،ولذلك ليس له طريقة سوى التحول عبر الخيال اذ يشير الى ذلك في قوله:(ماله غير التحول في التخيل موقف).
“وقرارة فاضت عليها نجمةٌ عذراء ليس لطيشها متألف”
البيت يكشف عن صورة ذات أطياف دلالية من حيث إيحائها،فهي في بنيتها السطحية تعد
أيقونة رومانسية تصور انعكاس النجم على الماء ، ولكننا إذا وضعنا هذه الصورة في سياق الدلالة الكلية للنص نجد أنها ترمز إلى ثنائية الواقع والمثال،فالمثال بوصفه عالما فوقيا
قد أشارت إليه العلامة”نجمة”أما الواقع بوصفه العالم الأرضي فقد أشارت إليه العلامة(قرارة)،فهذه الصورة تجسد انعكاس عالم الأحلام في واقع الشاعر ، وهي أحلام لم يحققها الشاعر بعد وذلك لأن الثنائية الضدية(قرارة،نجمة) تجسد المسافة الكبيرة بين الواقع /التحتي والمثال/ الفوقي، وبذلك توحي علامات عجز البيت (عذراء ، ليس لطيشها متألف) حيث تدل على أنها أحلام بِكر لم يحققها الشاعر بعد،وأحلام غير مطاوعة للشاعر.
” هذي مجازاتُ انفعالٍ ساذجٍ صيرورةٌ في الحلم طيشٌ مرهفُ”
(هذي) اسم إشارة يحيل إلى حالة الشاعر النفسية التي تتلخص في إحساسه بالغربة في الواقع فالصورة (صيرورة في الحلم) تجسد نزوحه للعالم المثالي ولكنه نزوح غير حقيقي
فالعلامات (مجازات ، انفعال ساذج ،طيش ) توحي بموقفه من هذا التحول إلى عالم المثال،إذا يرى أنه مجرد محاولة لتغييب حقيقة الواقع .
“كغناء راعيةٍ علوت وكلما أوغلت في التطراب شيئا أشغف”
ليصف تساميه عن الواقع من خلال الغناء لجأ إلى التشبيه “كغناء راعية “والاستعارة “أوغلت في التطراب”،حيث جعل الطرب كمكان يتوغل فيه وكلما تعمق داخله كلما أصابه الشغف وتجاوز الواقع وسما إلى عالم المثال،فالغناء والطرب هنا خرجا عن الدلالة المعروفة لهما وكونا علامتين تجسدانِ وسيلتين لتجاوز الواقع.
“وأصيرُ ما أخشاه في نسق المصائر فكرةً صفراء لا تتفلسف”
صوّر خوفه من حتمية المصائر بأن تصيّره إنسانا غير فاعلٍ في الحياة بعلامة مركبة من انزياحين ، أذ يصور الانزياح الأول:(نسق المصائر) حتمية الأقدار و قوانين الطبيعة التي لا فكاك منها ، في حين يصور الانزياح الثاني: (فكرة صفراء لا تتفلسف) خوفه مما يمكن أن تحتمه عليه الحياة بحيث يصبح في مرتبة الميت ، فاللون الأصفر مؤشر على الذبول واتصاف الفكرة به وعدم تفلسفها يوحي بلا جدواها والتحيز وعدم المرونة..
“وأضيق بالأشكال درعا مثلما برؤى الحداثة قد يضيق مثقفُ”
إذا كانت الواو للعطف،فأن البيت يكشف عن مخافة الشاعر من عدم المواكبة والمعاصرة
بحيث يكون إنساناً في غير زمانه ومكانه فلا تسوعب الأشكالُ الثقافيةُ والفكريةُ إنسانيتَه وبهذا فإن الشاعر يخاف أن يكون غريباً غير ملائم لعصره،وإن كان الواو للاستئناف فإن البيت هنا يكون دالاً على فخر الشاعر بكونه متمردا على الأشكال النمطية الجاهزة و التصورات المعلبة ،فهو يمثل حالة إنسانية لا تقلد الموروث بل تبحث عن ذاتها خارج كل أنماط التبعية ،فيكون متمردا على السائد الثقافي وبهذا يفتخر الشاعر بغربته واختلافه وتمايزه عن الآخرين ، والملاحظ أن غربة الشاعر عن عصره موجودة في كلا القراءتين والاختلاف فقط في الشعور الذي تأرجح بين الخشية والفخر،و قد استخدم الاستعارة (وأضيق بالأشكال درعا) والتشبيه (مثلما برؤى الحداثة ..) لتركيب هذه الصورة المتعددة الإيحاء.
3ــ الماضي المثالي
“يختارني الوقت اعتباطًا كلما سقط القناع عن الهوى فأرفرف
والحاضر المنهوب يَشْرَق بالرؤى وكراحلٍ لبعيده يتشوفُ”.
يمثل هذان البيتان نواة دلالية وستنمو بشكل أكبر في الابيات القادمة.
يجسد البيت(يختارني…)الواقعَ في شكل قناع يحجب الهوى الذي يُشير تضميناً لعالم المثال وقد عمد الشاعر الى الحذف في قوله أرفرف مما أعطى مساحة دلالية أكبر للمحذوف : فأرفرف قد تكون في الماضي ، المستقبل،الأبد،الأزل،والصورة في كليتها تدل على أن الشاعر كلما أسقط ،أعباء الواقع وقيود الجسد كلما حلق في عالم المثال.
يعبر في البيت(الحاضر…) عن غياب معنى الحياة في الحاضر وإحساسه بالغربة،إذ
تجسد العلامة(الحاضر المنهوب)غربةَ الشاعر في الحاضر،وغيابَ معنى الحياةِ فيه،فهو لا يحس بالحياة في حاضره لتعلق قلبه بغير الحاضر(المثال) فالشيء المنهوب من طعم الحياة، والعلامة (يشرق..)تجسد رؤية الشاعر المظلمة للحاضر،والدليل على ظلمة الحاضر هو أنه/ الحاضر لا (يشرق)إلا بغيره(الرؤى)التي تحيل إلى(الأحلام)،فبريق الأمل في الحاضر متأتٍ من(الرؤى)أي الأحلام ومن البديهي أن الأحلام نيقض للحاضر لأنها تجاوز له ،كذلك ساهمت الصورة (وكالراحل..) في تجسيد معاني الغربة ومحاولات تجاوز الحاضر للبعيد/المثال،الماضي.
“طار الكلام عن الحكاية طابعاً جرحا بخارطة الطفولة ينزف”
وإن كان البيتان السابقان يجسدان لحظات التجاوز،فإن الشاعر هنا قد وصل بالفعل إلى
الماضي/المثال،ففي صورة حسية مركبة من عدة استعارات شكل الشاعر نسقا تعبيريا دالا على لحظة عودة الذكريات وامتدادها في حاضره،فجعل للكلام طيراً يخرج من الحكاية(الماضي) ويطبع الحاضرَ بجروح الماضي ليصور امتداد الماضي وأثره في الحاضر ،فنزيف الطفولة دليل على أن آلمها ما زالت حية في الشاعر ، فقد جسد هذه المعاني في صورة واسعة الإطار تألفت من المجازات (طار الكلام.خارطه الطفولة.وينزف)
“تطفو صفات الوقت فوق ضبابِه فرحٌ وحلمٌ يابسٌ متقصف “
ليصف عقبات الواقع التي تحول دون رؤية الماضي جعل من الانزياح(تطفو صفات الوقت فوق ضبابه) أيقونة صوّرت ضباب الحاضر الذي يحجب الماضي والماضي الذي يلوح رغم ذلك الحجاب ، وجسد العجز هيئة الفرح و الحلم بالعلامة(يابس متصف) التي تجسد الضعف والوشوك على الذبول وهذا الوصف للفرح يشاكل البيت التالي:
“فرحي كوى الأبد الشفيف كزرقة الأحلام فيَّ صدى يئن فيعرفُ”
استخدم الاستعارة (كوى الأبد)والتشبيه( كزرق الأحلام) والظلال الدلالية للمفرد(صدى) لتكوين فضاء دلالي يضيء موقفه من الواقع والمثال ، فالواقع يمثل التعاسة والحزن للشاعر ، كما توحي بذلك الاستعارة(فرحي كوى الأبد الشفيف) فسعادة الشاعر تتسرب من الكوى التي يفتحها بينه وبين عالم المثال،الكوى هنا رمز يمثل كل نافذة تجعل الانسان يطل على العالم اللاحسي من أحلام وشعر و موسيقا والذكريات…أي كل ما يجعله يسمو عن الواقع،ولأنه فرح يتسرب من نوافذ الأبد حتم عليه أن يكون فرحاً خفيفاً شديد التجريد كما توحي بذلك الصورة (كزرقة الأحلام فيّ صدى يئن فيعرف) ، فالصورة هذه توحي بأنه فرح لا يدرك بسير وهذا الوصف للفرح ينسجم مع الوصف في البيت السابق.
“دنيا وتاريخ يُرَقِّصُ خيلَه في مسرح الأزمان طينٌ يهتف “
تعود نبرة السعادة والطرب متجلية في العلامتين(يرقص.. يهتف)وهي سعادة نابعة من تَذَكُّر الماضي/المثال، فالماضي هنا نقيض الواقع الحاضر ،فهو في مرتبة المثال لكونه وصل درجة من الكمال والبناء جعلته أنموذجاً ، إن البيت يجسد إعجاب الشاعر بالماضي ، نلمح ذلك في الأيقونة ( ترقيص التاريخ للخيول)،فهذه الأيقونة تجسد معني المجد والفرح ، فترقيص الخيول لا يكون إلا لمناسبة سعيدة،وكذلك يجسد المجاز (طين يهتف)حيوية الماضي فالطين رمز للحياة والإنسان ووصفه ب(يهتف) يشي بعمران ذلك الزمن وحيوية أهله الذين خلدتهم ذكراهم (في مسرح الأزمان)،وقد استخدم التنكير في قوله(دنيا) بغرض التعظيم وتفجير شعور الإعجاب بذلك الزمن.
“ونقوش من وشموا الحياة بصبرهم غنوا مواويلَ الخلودِ وطوفوا لمعًا بمرمرة الخيال ولم يزل منهم بنا لغزٌ يفك وأحرف”
يواصل في وصف أهل الماضي فهم كما يشير المجاز(وشموا الحياة بصبرهم) إلى أفعالهم الخالدة ومثابرتهم في الحياة التي منحتهم الخلود ، لذلك سكنوا ذاكرة الشاعر وخياله ، فالاستعارة(طوفوا لمعاً بمرمرة الخيال)أيقونة ترسم مشهد خلودهم في التاريخ المشار إليه بضمير المتكلمين(بنا)إذ يوحي هذا الضمير إلى أنهم خالدين في ذاكرة الجماعة وليس الفرد،
ويوحي قوله:(لُمعاً)إلى أن ذاكرهم مصدر الهام تضيء الحاضر بخبراتهم،وذلك بأن الإلتماع يشير للنور الذي يدل مجازاً على المعرفة،وقد ساهم التدوير كنسق دلالي غير لساني في ترسيم مشهد تطوافهم الأبدي( خلودهم) ، فالامتداد الإيقاعي الطويل يجسد الفترة الزمنيةَ الطويلة لتطواف هؤلاء وغنائهم لمواويل الخلود .
4ـــ الأمل فالاستسلام
“وأنا نداء الحاضر المبحوح من لغة المجاز غناؤه المتغطرفُ”
هذه البيت يشاكل البيت (الحاضر المنهوب يشرق)إذ يعد إنماءً لمعناه،يصور البيت غربة الشاعر في الواقع ، فهو مقيم في زمن الحاضر ولكنه يأمل إلى المثال،لذلك فهو في حالة استدعاء وتعلق دائما بالمثال،الذي تشيرإليه العلامة (لغة المجاز)،فالمجاز هنا نيقض ما هو حقيقي أي الواقع والنداء هنا يمثل استدعاء الشاعر للحلم/المثال ومحاولته التمرد على الحقيقة (الواقع) كما تدل على ذلك الصورة (غناؤه المتغرف ) حيث يوحي هذا التركيب بصراع الشاعر مع الواقع وتمرده عليه وهذا المعنى يشاكل البيت التالي:
“تغريبتي فرسٌ بقارعة الزمان يسل لحنا عن صداي ويعزف”
تجسد الصورة ( تغربتي فرس بقارعة..)اغتراب الشاعر ومحاولته لتجاوز إطار الحاضر للمثال ، وذلك لا يتحقق الا بالتحرر من أعباء الجسد تحوله الى صدى كما تشير لذلك الاستعارة(يسل لحنا عن صداي..) فعجز البيت يشاكل دلاليا النواة:(غيض الطين..وانفرط الصدى)حيث وصل فيها الشاعر للمثال بعض أن غاب الجسد(غيض الطين).
“حتى انتشى حرف الحقيقة والرؤى مازال طائرها يحن ويرجف”
يصور عدم تحقق الحلم(المثال)لوجود عقبة الحقيقة(الواقع) التي فرضت قوانينها بقوة،
وقد اتكئ على تقنية التضاد من جهة ليشكل المفارقة بين هشاشة عالم الأحلام و سيطرة قوانينُ الحقيقة/الواقع، حيث نجد العلامة(حرف الحقيقة)تشير للواقع،بينما تشيرالعلامتين:(الرؤى وطائرها)إلى الأحلام والشاعر الحالم،ومن جهة أخرى نجد التضاد بين انتشى ويرجف ساهم في ابراز المفارقة بين فرض الواقع لقوانينه على الشاعر،وعجز الشاعر(طائرها) من اختراق تلك القوانين،إن الحلم بالوصول للمثال يصطدم بعقبة الحقيقة (الواقع)،ويمكن القول أن العلامات( يحن)تكشف عن الجو النفسي للشاعر المنطوي على شوق للمثال،وتكشف العلامة (يرجف)عن إحساسه بانعدام الدفء والأمن في العالم الموضوعي
“ويقول لي في صوت شعرٍ هامسٍ كيف انعتاق الظل حيث الأسقف”
يشاكل هذا البيتُ البيتَ السابق ، فهو يكشف عن شعور الشاعر بالعجز وعدم قدرته على الفكاك من حتمية العالم المادي ، فالاستفهام مع الصورة الحجاجية :(كيف انتعاق الظل…) أشاعا شعور الضعف وأبرزا موقف الشاعر تجاه موضوعه/التحرر ، إذ يرى أنه مجرد ظل ترسمه يدٌ أعلى وأكبر من قدراته،فكما إن الظل لا يستطيع التحرر من شكل السقف،فهو كذلك لا يستطيع التحرر من حتمية الواقع.
والملاحظ أن الشاعر قد عدل في قوله (يقول لي) بدلاً من (أقول لي) فجعل المُستفهم شخصاً سواه ودلالة هذه الانزياح تتلخص في أنه أراد أن يجعل مسافة بينه وبين ذاته حتى يتسنى له عتابها والتعجب من أمنيتها المستحيلة بشكل موضوعي ،فالعدول إلى ضمير الغائب والاستفهام كثّفا شعور اللوم و الاستغراب وهذا يشاكل البيت التالي:
” كيف التي شرعت لوحنَك للشذا شحبت وأنت على الندواة مشرف “
يواصل الشاعر تفجير شعور الاستغراب،بوضع استفهام انكاري تعجبا وانكارا لموقفه هذا ،و قد استخدم الشاعر تقنية التجريد كما نلاحظ في (التي،شحبت) إذ تحمل على مدلول مائع لا يجسد أنساناً معينا بقدر إبرازه لشيء او قيم غائبة كانت ذات يوم موجودة ، بينما تدل الاستعارة (شرعت لحونك للشذى شحبت) على أن هذه الغائبة قد ملأت فنه بالشذا،والشذا دال على الجمال والحياة السعادة… ولكنها غابت ،وعلى الرغم أنها غابت إلا أن حنين الشاعر إليها مازال حياً فالصورة:(وأنت على النداوة مشرف)توحي بحيوية الحنين.
نلاحظ أن الشاعر في البيت أعلاه خاطب نفسه بضمير المخاطَب ودلالة هذا الانزياح تكمن في أنه أراد أن يجعل مسافة بينه وبين ذاته، تجعل نقده إياها أكثر موضوعية فهذا البيت كالبيت السابق يتضمن عتاباً للنفس واستغراباً مما فعلته في أن حنينها وشوقها لتلك المؤنث ما زال حياً ندياً ، في حين أنها/المؤنث قد شحبت وغابت،فعدوله من ضمير المتكلم إلى المخاطب يعد دالا سيميائيا يصور موقفه الموضوعي من ذاته لأجل مساءلتها مساءلة تتضمن العتاب .
“فلو استطيع خلعت كل ملامحي وقصدت من بغيابهم قد أسرفوا “
إن البيت هذه يشاكل الأبيات (غيض الطين وانفرض الصدى)(يسل لحنا عن صداي)،ذلك لأنه امتداد لثنائية الجسد الروح تلك الفكرة الصوفية التي ترى أن الجسد هو السجن الذي يحبس الروح ،عندما يتحرر الإنسان منه يستطيع الوصول بالعالم الأبدي. صوّر البيت استحالة وصول الشاعر للغائبين،حيث جسدت جملة الشرط ذلك المستحيل لوجود عقبات تتمثل في قوانين الفيزياء وقد أخرج الشاعر العلامة،(ملامحي)من مجالها الدلالي الحقيقي لحيز دلالي جديد يتمثل في قيود العالم الفيزيائي التي تمنعه من الوصول إلى العالم المقابل الذي تشير إليه العلامة(غيابهم)وكذلك أخرج العلامة(أسرفوا)لدلالة لمجال دلالي جيد يمثل طول المدة التي غيابهم عنه
التناص:
في هذه القصيدة كان للتناص دور هام في بناء النص ، ولهذا كان لابد من الكشف عن الأصوات التي تسربت إلى باطن النص. يجسد النص تصورا إسلامياً عن مفهوم الأزل،فهو كما ألمحنا آنفاً يمتص من معين الآية الكريمة ((…ألست بربكم قالوا بلى))،كذلك نجد في النص نزعة صوفية تظهر في نظرة الشاعر لثنائية الروح والجسد،فهو كما أسلفنا يرى أن الجسد هو المعيق الذي يمنع تحرر الروح،ونجد أيضاً في النص ظلالاً لنظرية المُثل،وهي نظرية فلسفية تتلخص في أن العالم الطبيعي مجرد ظلال لعالم آخر هو عالم المثال،فالأشكال الموجودة في هذا العالم هي انعكاس فقط لأشكال حقيقية وكاملة في العالم الأبدي، وكذلك كان موقف الشاعر يتقاطع مع هذا التصور في نقاط ويتباين في إخرى
التقاطع:
أولا:إيمانه بوجود عالم مثال سابق للعالم المادي
ثانيا: رؤيته أن هذا العالم المادي هو عالم زائف والعالم الحقيقي هو عالم المثال
التباين:
ترى نظرية إفلاطون أن عالم المثال هو أجسام والعالم المادي ظل لتلك الأجسام ، أما الشاعر فقد رمز للعالم المثالي بالصدى وللعالم المادي بالطين مما يعني أن تصوره للمثال بأنه عالم أرواح مجردة من كثافة الحس ليس لها أجسام ، أما عالم الأجسام هو العالم المادي لذلك رمز إليه بالرمز (الطين).
هذا المقال مأخوذ من بحث قدمه الكاتب في ملتقى الخرطوم لنقد الشعر


إرسال التعليق