محمد الحبيب يونس يكتب : المرجعية الثقافية ودورها في تأويل الشعر.
الشعر ينشأ على سياق ومرجعية ثقافية لولاها لأصبح فهمه مستحيلا، فالمشترك الثقافي هو ما يمتح منه الشعر وهو قاعدة الانطلاق لكل ثورة تهدف لتطوير الشعر وإنشاء سياق ومرجعية جديدة، إذاً الشعر عملية تراكمية تتحرك إلى ما لانهاية ولا تنحبس في لحظة ما زاعمة أنها لحظة الكمال الشعري بل تتحرك على الدوام باحثة عن الشعر الصافي الذي لن تجده وهذا هو سر الإبداع القلق، لأن القلق يحث على الحركة وتجاوز الحاضر مهما كان جميلا ومعنا إلى حاضر آخر…
فالسياق أو المرجعيةالثقافية ليست أمرا مستحدثا إنما هي موجودة منذ بداية الشعر نشأت بشكل لا واعي وتلقائي من المتعارف عليه بين الناس من عادات وتقاليد وأخبار العرب وأمثلتهم والبيئة الطبيعية والثقافية عموما، فكل هذه الأشياء تشكل المرجعية التي يقوم عليها النص ويعود إليها المتلقي لفهم، النص، فلو وجد مثلا من الأمثال في القصيدة لابد من أن يكون له معرفة مسبقة له لفهم مغزاه فيها ووظيفته الدلالية في تجربة الشاعر، وكذلك التشبيهات كلها تكون مأخوذة من مفردات البيئة والطبيعة فبكل سهولة ويسر يستطيع المتلقي إيجاد الخيط الجامع بين المشبه والمشبه به .
ونتساءل هنا ما الذي حدث في العصر الحديث حتى أصبح تلقي القارئ شاقا؟. وهناك هناك فروقات بين المرجعية الحالية والسابقة؟.
المرجعية العربية في العصر الجاهلي كانت ضيقة جدا وغير معقدة يسهل استيعابها أو استيعاب جزء كبير منها . أما في العصر الحالي فقد اتسعت بحيث أنها هضمت السياقات القديمة وانفتحت على ثقافات أجنبية ومعارف جديدة لا سيما التاريخ والأديان والأساطير والفلسفة والإرث الإنساني ككل من تراث رمزي ومادي وبهذا أصبحت النصوص تنهض على مرجعية مترامية الأطراف تشمل حقول معرفية كثيرة على عكس السابق حيث كانت المرجعية هي أخبار العرب وأمثالهم والثقافة العربية والبيئة.. ولنأخذ مثلا قول الشاعر الواثق يونس:
أنا زامر الحي معزوفتي لا تني بين صبر وصبر تنوح
نلاحظ أن الشاعر وظف المثل الذي يقول (زامر الحي لا يطرب) وعبر بذلك عن تجربته الشعورية المعاصرة وإحساسه بالتهميش وعدم التفات الناس لشعره، لأنه كزامر الحي لا ينطرب قومه بشعره .وشاهدنا هنا أنك لو لم تكن مدركا للمثل لما استطعت أن تصل لشعور الشاعر وما يعنيه.. ولنأخذ قول محمد عبدالباري
أقاموا كهذا النخل كالغيم طوفوا
مدارتهم في الليل جوع ومصحفُ
نلاحظ أن الدال النخل في صدر البيت يجسد ثبات هؤلاء وعراقة جذورهم وعطاءهم وفي حين تشير العلامة كالغيم إلى ترحالهم وفاعليتهم في الحياة، وما على القارئ كي يفكك الصدر سوى أن يبحث في معاني المشبه به وظلال معانيه، فمثلا النخلة هو شجر صحراوي يثمر تمرا هذا معناه المباشر أما معانيه الثانوية أنه ثابت في الأرض متجذر فيها، ويشير إلى البيئة العربية وله قيمة معنوية في الدين إضافة لقيمته المادية لارتباطه بالمدينة المنورة وبداية إفطار الصائم به فأغلب هذه المعاني يمكن أن يشير إلى البيت ويصف بها هؤلاء مجازا بأنهم كالنخل مثمرين أي ذوو عطاء ولهم جذور عريقة في وهم من البيئة العربية ويكون تفسير البيت معتمد على اتساع أو ضيق معنى النخل لدى القارئ ومقدرته على ربطه مع المشبه به وذات الطريقة نفكك بها المفرد الغيم وما أداه من وظيفة دلالية ..
أما العجز
فيقول إن مدارتهم أي مجال تحركهم في الليل جوع ومصحف ، الجوع لا يحتاج إلى تعريف وكذلك المصحف فهو هنا يدل على العبادة ليلا وارتباطه بالجوع يحيلنا إلى الزهد وخلوة العبادة التي يحارب فيها الزاهد شهوات النفس فلا يأخذ معه إلا ما يسد الرمق ولو عدنا إلى المرجعية الثقافية لرأينا أن هذا السلوك مرتبط بالمتصوفة، ومن ثم بكل يسر نستطيع أن نعرف من هم الذين يعنيهم الشاعر.
ومن الإحالة إلى التاريخ الإسلامي قول تميم البرغوثي :
أرى أمة في الغار بعد محمد
تعود إليه حين يفدحها الأمرُ
ألم تخرجي منه إلى الملك آنفا
كأنك أنتِ الدهرُ لو أنصف الدهرُ
فمالك تخشين السيوف ببابه
كأم غزال فيه جمدها الذهرُ
قد ارتجفت وابيض بالخوف وجهها وقد ثبتت فاسود من ظلها الصخر
هنا يستخدم الشاعر قصة هجرة النبي والغار الذي احتمى به من المشركين ويوظف هذه القصة ليعبر عن حال الأمة في العصر الحالي، فالغار هنا خرج عن دلالته الحقيقية المعروفة دلَّ على خوف الأمة من عدوها وعدم الخروج لاستعادة ما سلبه إياها وإن لم يكن للقارئ علم بتلك القصة لما استطاع الوصول لما يعنيه الشاعر هنا.
هل يمكن القول إن المعركة بين القديم والحديث هي معركة متوهمة غير موجودة فلو كان هناك فرق بينهما يعود إلى اتساع المرجعية التي يأخذ منها الشاعر في هذا العصر وذلك لأنه جاء متأخرا فوجد تراكم معرفي وتاريخي عكس الشاعر القديم..
فالشعر يتطور مع تطور السياق الثقافي واتساعه وهذا ما جعله اليوم أشد كثافة إذ وجد بين يديه التراث العربي كاملا أضف إلى ذلك الانفتاح على المعارف والثقافات الأخرى
وكل نوع أدبي ينشئ لنفسه سياقا يخصه هو كجنس أدبي له خصائصه التي يتمايز بها عما سواه فهو يتفسر بسياق الثقافة العامة وسياق جنسه الأدبي، بل كل حقبة أدبية يكون لديها مشترك وهو سياقها الخاص وهو جزء من السياق الكلي العام .


إرسال التعليق