محمد الحبيب يونس يكتب : كلمات سبارتاكوس الأخيرة للشاعر أمل دنقل مقاربة نقدية - صوت الوحدة

محمد الحبيب يونس يكتب : كلمات سبارتاكوس الأخيرة للشاعر أمل دنقل مقاربة نقدية

يتألف العنوان من من مركبٍ أضافي هو خبر لمبدأ محذوف (كلمات سبارتاكوس) وصفة لهذا الخبر وهي (الأخيرة)  ،الكلمات قد تكون خطبة أو رسالة مكتوبة ووصفها بالأخيرة أكسبها طابع الوصية وهذا لأن الوصية تكون آخر ما يقوله الإنسان  يحيل العنوان إلى سبارتاكوس الذي كان عبداً وثار ضد العبودية مما يدل أن القصيدة تتحدث عن الثورة التحرر ، فسبارتاكوس رمزٌ للمتمرد على السلطة .
 

المجد للشيطان معبود الرياح

مَن قال “لا” في وَجْه مَن قال “نعمْ”

مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ

وقال “لا” فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ

الشيطان رمز للثورة وذلك  لأنه أول متمرد ومخالف للقوى العليا في الكون حسب الموروث الديني وهو رمز للشر المطلق في كل الديانات لذلك يمكننا أن نقول أن النص يحدث صدمة للمتلقي بتمجيده للشيطان.
الرياح ترمز للحرية واتعباع الأهواء والصورة (معبود الرياح ) تغالي في وصف حرية الشيطان وتمرده وذلك لأنها جعلت الرياح تعبد الشيطان لأنه يفوقها حريةً فهي صورة دالة تضخم حرية الشيطان، وليس بالضرورة أن تشير كلمة الشيطان هنا إلى الشيطان ذاته، لأن هذه الكلمة هنا مجرد رمز للتمرد والثورة مطلقا فقد يكون المقصود إنسان مجتمع أو عصر ما  خارج على عادات وأعراف زمانه ومكانه، فيصبح في نظر عبدة العادة والعرف شيطانا .
العدم ربما يمكن أن يشير إلى الوهم و التعظيم  الذي يضفيه الناس على الملوك بحيث يصبحون في نظرهم أقوياء خارقين  فيجعلهم خوفهم من ذلك راضيين بالعبودية وقد يرمز  العدم إلى العالم الغبيبي واليوم الآخر فبهذه القراءة يصبح الغيب مجرد عدم يتوهمه الإنسان وبالشيطان فقط أي بالتمرد على الأعراف يمكن للإنسان أن يمزق أوهامه وتصوراته عن الغيب ويتجاوزها .
أما التركيب (من قالوا نعم) فهو دال حرٌ يشير لكل من يخضع للسلطة ويرضى بالعبودية


مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ

وجبهتي – بالموتِ – مَحنيَّهْ

لأنني لم أَحْنِها… حَيَّهْ!

يبدأ صوت الثائر المشنوق على مشانق الصباح بالحديث يكشف عن البعد النفسي للثائر المؤرجح بين الفخر والحزن فعدم إنحاء جبته في حياته يشيع مشاعر الفخر، بينما انحناؤها بالموت يفضي للنهاية التراجيدية للثائر والصباح رمز للحرية  اما العلامة المركبة (مشانق الصباح )فهي تجسد  المصير الذي ينتهي إليه الباحثون عن الحرية  فكثيراً ما يتم نفيهم أو إعدامهم
فالحريةهنا رمز مجرد لا يشير الى معين بل يشير إلى الحرية التي تجسدها الثورات التي غالباً ما تلاقي مصير الموت الذي دلت عليه الصورة (وجبهتي بالموت…) فلها أما أن يركع للسلطة أو ينتهى به الأمر نهاية حزينة


يا إخوتي الذينَ يعبُرون في الميدان مُطرِقينْ

مُنحدرين في نهايةِ المساءْ

في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ

لا تخجلوا… ولترْفعوا عيونَكم إليّْ

لأنكم مُعلَّقونَ بجانبي… على مشانِق القيصَرْ

فلترفعوا عيونَكم إليّْ

لربما… إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيّْ

يبتسمُ الفناءُ داخلي… لأنكمْ رفعتُم رأسَكمْ… مرَّهْ

يواصل صوت الثائر حديثه في حوارية أحادية تكشف عن حالة الصمت الجماعي والخضوع للظالم  والذل الذي تعيشه الجماعة  فهم كالأموات حسب رأيه لأنهم لا يفعلون شيئا سوى الركوع للجبار والظالم  كما تجسد ذلك علامات المقطع: (لأنكم مُعلَّقونَ بجانبي… على مشانِق القيصَرْ)
وقد رمز للظلم والسطلة باستدعاء شخصيات من التاريخ الإنساني هما (الاسكندر والقصير) فكلاهما دال إلى
المستبد والحاكم الظالم بشكل عام دون تعيين

ويتمنى أن يتحقق حلمه بأن تتجاوز الجماعة مخاوفها ولو مرة فلربما بذلك يرتاح في قبره إذا رفعوا رؤوسهم مثله

أما الدال (أخوتي ) حسب الصفات التي ألحقها به ، فهو دال يجسد كل حالات الاستسلام والركوع للظالم ..
وأيضا يكمن أن تكون العلامة (مساء ) رمزاً لغياب الفكر والاضطهاد وواندثار قيم الحرية وغيرها من الدلالات السالبة ..

سيزيفُ لم تعدْ على أَكتافِهِ الصَّخرهْ

يحملُها الذين يُولدونَ في مخادِع الرقيقْ

والبحرُ – كالصَّحراءِ – لا يروي العطَشْ

لأنَّ مَن يقولُ “لا” لا يرتوي إلاَّ مَن الدُّموعْ
استدعى الشاعر من الميثولوجيا شخصية سيزيف ليعبر بها عن موقف شعري معاصر يتسم بالتمرد والرفض …
سيزيف في العادة يرمز للتمرد والعقاب الدائم الناجم عنه اما هنا فقد أخرج الشاعر هذا الرمز من دلالاته المعهودة وجعله يفلت من عذابه الأبدي حيث جعله يلقي الصخرة عن كتفه ، والصخرة هنا رمز يجسد المعاناة  التي يحملها الناس بسبب صمتهم عن الظالم كما تدل على ذلك علامات الصورة (يحملها الذين يولدون في مخادع الرقيق )

… فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ

فسوف تنتهونَ مثلَه… غدًا

وقبِّلوا زوجاتِكم – هنا – على قارعةِ الطريقْ

فسوف تنتهون هاهنا… غدًا

فالانحناءُ مُرٌّ

والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرِّجالِ ينسجُ الرَّدى

فقبِّلوا زوجاتِكم… إنِّي تركتُ زوجتي بلا وداعْ

وإن رأيتم طفليَ الذي تركتُه على ذراعِها بلا ذراعْ

فعلِّموهُ الانحناءْ

علِّموهُ الانحناءْ

.. … …

اللهُ… لم يغفرْ خطيئةَ الشيطانِ حين قال “لا”

والودعاءُ الطيبونْ

هم الذين يَرِثونَ الأرضَ في نهايةِ المدى

لأنهم… لا يُشنَقونْ

فعلِّموهُ الانحناءْ

وليس ثَمَّ من مَفَرٍّ

لا تحلُموا بعالَمٍ سعيدْ

فخلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ: قيصرٌ جديدْ

وخلْفَ كلِّ ثائرٍ يموتُ: أحزانٌ بلا جدوى

ودمعةٌ سُدى

كما أسلفنا أن الجماعة الذين يخاطبها الشاعر هم دال يجسد كل اشكال الخضوع والصمت ،، وفي هذا المقطع يواصل الشاعر خطابه مع هذه الجماعة مستخدما معهم أساليب السخرية لإغرائهم على التمرد …

  • فالكناية (العنكوت فوق أعناق الرجال) تدل على ركوعهم سنينا للظلم وتعد أيضا مؤشرا على حالة نسيان ، فهؤلاء الذين تعلموا الانحناء هم ، مطموسي الهويات و الذوات، فققدوا الإحساس بإنسانيتهم مما جعلهم يكونون كالبيت المهجور  لا أحد يحس بهم لأنهم بلا صوت، فهم مجرد امتداد لذات مالكهم .

يخبرهم بأنهم سيلاقون نفس المصير الذي لاقاه مستخدما أسلوب التكرار في التركيب (ستنتهون مثله غدا)
ولذلك  يطلب منهم التمتع بملذات الحياة ولكن ذلك مقابل كرامتهم وحريتهم كما في الصورة (وقبلوا زوجاتكم…)
أما الدال (طفلي) فهو رمز للمستقبل وقول الشاعر( علموه الإنحناء )  علامة تجسد سخرية الشاعر من هؤلاء الذين يكسبون الحياة مقابل الإنحناء ، والشاعر لا يريد أن يكون المستقبل مستقبل عبودية كالحاضر فالسخرية هنا تتضمن معنى مغايراً لمعناها الظاهر …وذلك ينسجم مع السياق الدلالي العام للنص فلا يمكن أن يتمنى من ثار وتمرد على الظلم مستقبلا غارقا في الظلم والاستبداد .
واستدعي الشاعر أيضاً قصة معصية الشيطان لله ليعبر بها عن موقف معاصر يتمثل في العقاب الذي يلاقيه الثائر من السلطة كما يدل على ذلك قوله( الله لم يغفر خطيئة الشيطان).

… … …


يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ… إني أعترِفْ

دعني – على مِشنقتي – ألْثُمُ يَدَكْ

ها أنا ذا أقبِّل الحبلَ الذي في عُنقي يلتفُّ

فهو يداكَ، وهو مجدُك الذي يجِبرُنا أن نعبُدَكْ

دعني أُكَفِّرْ عنْ خطيئتي

أمنحكَ – بعد ميتتي – جُمْجُمَتي

تصوغُ منها لكَ كأسًا لشرابِك القويِّ

… فإن فعلتَ ما أريدْ

إنْ يسألوكَ مرةً عن دَمِيَ الشهيدْ

وهل تُرى منحتَني “الوجودَ” كي تسلُبَني “الوجودْ”

فقلْ لهم: قد ماتَ… غيرَ حاقدٍ عليَّ

وهذه الكأسُ – التي كانتْ عظامُها جمجمتَه –

وثيقةُ الغُفرانِ لي

هذا القطع يكشف عبر حوار الشاعر مع القصير(رمز الظالم) عن
البعد النفسي للظالم (قيصر)، فخطاب الشاعر هنا عبارة عن سخرية تجسد طريقة تفكير الظالم المرموز له بقيصر ، فهو يرى نفسه مركزاً للوجود فهو يهب الغفران والرضوان للخلق وتعد مخالفة رأيه خطيئة وإثما .
فقول الشاعر (إني اعترف.. دعني ألثم يدك..نعبد.. أمنحنك جمجمتي ..منحتني الوجود ..تسلبني الوجود … وثيقة الغفران لي)  كلها تعد علامات كشفت لنا عن البعد النفسي للظالم الذي يرى الوجود امتدادا لذاته وأهوائه ..فهذا المقطع لا يدل على أن الثائر استسلم للقصير إنما الخطاب هنا خطاب ساخر يدل على عكس ظاهره ويعكس نفسية القيصر المريضة بداء العظمة..

إرسال التعليق

لقد فاتك