كاربينو يكتب : تحديات حكومة تأسيس بين وهم الدولة القائمة وحقيقة الصفر السياسي والإدارة - صوت الوحدة

كاربينو يكتب : تحديات حكومة تأسيس بين وهم الدولة القائمة وحقيقة الصفر السياسي والإدارة

لم تأتي حكومة تأسيس على ظهر دبابة، ولم تنقض على جهاز دولة مترهل لتعيد تدويره وفق أهوائها كما فعلت الانقلابات التقليدية، بل ستجد نفسها أمام فراغ هائل ، جدران خاوية، مكاتب لا تسند ذاكرة، ولا تحتفظ بأرشيف، ووزارات أشبه بهياكل عظمية متآكلة، بلا دماء حية أو عقل إداري او تراكم خبرة ، التحدي هنا لا يشبه مجرد تسلُّم مقاليد سلطة، بل هو ولوج إلى أرض خلاء، حيث لا شيء موجود بالأساس، وحيث تقتضي مهمة الحكم أن تبدأ من الصفر؛ لا في مستوى البناء السياسي فحسب، بل في أبسط مستويات التنظيم الإداري والمعرفي للدولة.

في الحالة السودانية الراهنة لا يمكن التعامل مع “الدولة” بوصفها كياناً قائماً يمكن ترميمه أو إصلاحه، بل يجب الاعتراف بأن ما خلفته الحروب الأخيرة هو نقيض الدولة بكل المقاييس ، إذ لا ذاكرة مؤسسية يمكن الرجوع إليها، ولا كادر إداري متماسك يمكن التعويل عليه، ولا قاعدة بيانات أو بنية معلوماتية يمكن أن تُشكِل عماد التخطيط والإدارة ، وهو ما يجعل من التأسيس مهمة استثنائية تتطلب بناءً متدرجاً من الفكرة إلى البنية، ومن الرؤية إلى الهيكل، ومن القيم إلى القوانين.

وفي هذا السياق تُعد وزارة الخارجية نموذجاً صارخاً لحالة الانهيار العميق ، فالمشكلة لا تقتصر على مغادرة السفراء أو توقف البعثات، بل تكمن في أن الوزارة كمؤسسة لم تعد موجودة فعلياً ، أسوأ من ذلك أن معظم السفارات والملاحق الدبلوماسية لم تُحرر بعد، ولا تزال خاضعة لسيطرة الحركة الإسلامية، إما بشكل مباشر أو عبر عناصر ظل تديرها باسم الدولة القديمة ، هذا الواقع يُفقد السودان لسانه الخارجي، ويعزله دبلوماسياً لا لأنه منبوذ، بل لأنه ببساطة لم يعد يمتلك أدوات الخطاب ولا ممثلي الإرادة السياسية الجديدة.

الوزارة في الداخل هي الأخرى لا تحمل من صفات المؤسسة شيئً لا ملفات، لا أرشيفات، لا منظومة مصالح وطنية، ولا أي تصور عن دور السودان الخارجي في ظل المعادلات المتغيرة ، الملحقيات الإعلامية والثقافية والعسكرية غائبة، والمحطات الأمنية الخارجية توقفت، والمراسلات الدبلوماسية الرسمية في حكم الميتة ، أما بعض البعثات الدائمة فتعمل بإرث النظام السابق وبعقليته، ما يضاعف من الاختلال البنيوي ويعمق العزلة من هنا، فإن تحرير وزارة الخارجية من قبضة الماضي، وإعادة بنائها كمؤسسة تعبر عن مشروع الدولة الجديدة، يمثلان أولوية سياسية وأمنية واستراتيجية من الدرجة الأولى.

لكن التحدي الأكبر أن هذا الفراغ لا يتوقف عند الجهاز التنفيذي، بل يمتد إلى غياب تام للمرجعية التشريعية، وشلل في الأجهزة الرقابية، وتفكك على مستوى سلطة القضاء ذاته ، إن من يتحدث عن “استلام السلطة” في هذا السياق، يغفل أن السلطة لم تعد قائمة أصلاً، ولا أدواتها متوفرة، وأن التأسيس ليس انتقالاً من حالة إلى أخرى، بل قفز في الفراغ ومحاولة لخلق واقع بديل بالكامل.

ولا يقف الأمر عند الداخل المنهار، بل إن العزلة الخارجية تُفاقم من تعقيدات المرحلة ، لا وجود لاتفاقيات مؤسسية نافذة، ولا تمثيل دبلوماسي يعكس المصالح العليا للدولة، ولا قنوات اتصال تحفظ الحد الأدنى من الاعتراف الدولي ، ومع غياب التمثيل الحقيقي، فإن حكومة تأسيس لا تعاني فقط من شح الموارد، بل أيضاً ستجد صعوبة في التواصل مع العالم الذي أصبح اسير محاور ومصالح ، وهنا يكمن السؤال كيف يتعامل العالم مع كيان لم تتبلور معالمه بعد؟ وكيف ينظر العالم لحكومة السلام التي تطرح برنامج بناء وتأسيس الدولة؟

إلى جانب ذلك هناك تآكل في الثقافة الإدارية ذاتها؛ فالموظف العام، إن وُجد، يعمل خارج نسق التدريب الحديث، بلا نظم رقمنة، ولا أدوات تسيير مرنة، بل داخل ذهنية مثقلة بالإرث البيروقراطي أو مشروخة بولاءات ما قبل الدولة وهنا، فإن إعادة بناء الكادر الإداري لا تقل صعوبة عن إعادة تشكيل القوات النظامية أو إعادة صياغة البنية السياسية، لأن الموظف الكفء والنزيه هو العمود الفقري للدولة، لا الوزير ولا المدير وحدهما.

والأخطر أن كل هذه التحديات لا تطرح نفسها ضمن أفق زمني مريح، بل في سياق ضاغط، آني، ومتسارع ، فالشعب الذي أنهكته الحرب لا ينتظر خططاً طويلة الأمد، بل يطالب اليوم، لا غداً، بالخبز، الأمن، التعليم، الصحة، والعدالة ، وهنا ينشأ التوتر البنيوي بين ما يحتاجه التأسيس من وقت وهدوء وتخطيط، وبين ما تفرضه متطلبات الشارع من سرعة ومرونة واستجابة فورية، ما قد يتحول إلى قنبلة موقوتة إذا لم يُحسن إدارتها.

لهذا كله فإن حكومة تأسيس ليست حكومة تمكين أو تجريب سياسي، بل لحظة تاريخية تتطلب وعياً عميقاً بطبيعة ما تواجهه، وامتلاكاً لخيال سياسي خلاق، وقدرة على الجمع بين البناء المادي والبناء الرمزي، بين استعادة الثقة واستعادة الدولة ، إنها حكومة ليست فقط في مواجهة الانهيار، بل في مواجهة وهم أن هناك شيئاً متبقياً يمكن البناء عليه ، وكل من يتعجل النتائج أو يقيس أداءها بمسطرة الحكومات المستقرة، فإنه ببساطة لا يدرك أن هذه الحكومة لم تأت لتسكن دولة قائمة، بل جاءت لتصنع الدولة

إرسال التعليق

لقد فاتك