سارة السعيد تكتب : مأزق الرباعية في السودان: إعادة توزيع النفوذ تحت غطاء التهدئة - صوت الوحدة

سارة السعيد تكتب : مأزق الرباعية في السودان: إعادة توزيع النفوذ تحت غطاء التهدئة

في القراءة الظاهرة، تتحرك اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، مصر، السعودية، الإمارات) ضمن نطاق تنسيقي يهدف إلى وقف الحرب في السودان ودفع الأطراف نحو تسوية سياسية. لكن تفكيك بنية هذه اللجنة ووظائفها الحقيقية يشير إلى سياق مغاير: ما يُدار تحت غطاء الوساطة هو فعلياً إعادة ترسيم النفوذ في السودان بعد انهيار الدولة المركزية.

منذ أبريل 2023، خرج السودان من معادلة الدولة بوصفها جهازاً حاكماً موحداً. ما تبقّى على الأرض هو سلطة عسكرية مزدوجة، بنية أمنية مفككة، موارد غير مضبوطة، وشبكات مصالح متداخلة. هذه البيئة لا تنتج عملية سلام، بل ساحة توزيع. من هنا، تتحرك الرباعية كمنصة تنسيق لتحديد “من يحق له أن يظل داخل المعادلة” و”من يجب أن يُقصى أو يُعاد توجيهه”.

الخلاف الذي ظهر مؤخراً بين القاهرة وواشنطن حول طبيعة التمثيل في اجتماعات الرباعية لم يكن خلافاً على الأسماء، بل على هوية السلطة القادمة في السودان. مصر تعتبر أن المؤسسة العسكرية – رغم تراجع سيطرتها – ما زالت الضامن الوحيد لاستقرار الحدود، ولمنع انتقال الصراع إلى الجنوب المصري. بالمقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى استبعاد العناصر العسكرية من طاولة الحل، ليس فقط تحت بند العقوبات، بل لأن وجود الجيش في التسوية يعني تكريس نموذج “دولة العسكر” الذي تفضّل واشنطن تجاوزه في النسخ الجديدة من إعادة الإعمار ما بعد الحرب.

على الأرض، تُعد قوات الدعم السريع هي القوة الأكثر مرونة، قدرة على الحركة، وتحكماً في مسارات التجارة والذهب. تقارير استخباراتية غربية تتابع منذ أشهر حركة الذهب الخام من دارفور إلى حدود ليبيا ومنها إلى شبكات تكرير في الخليج. الإمارات متهمة – ضمنياً – بأنها تُشكل حلقة رئيسية في هذه السلسلة، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء وشركات قشرة. ومع ذلك، فإن وجودها داخل الرباعية يمنحها غطاءاً دبلوماسياً، ويحمي خطوطها اللوجستية من الضغط المباشر.

السعودية تحاول الحفاظ على موقعها كوسيط دون الغرق في تفاصيل الميدان. تستضيف، تدير، وتنسق، لكنها لا تفرض شروطاً. موقعها هذا يجعلها شريكاً مقبولاً من كل الأطراف، لكنه أيضاً يقلل من تأثيرها الحقيقي في تحديد المسار السياسي.

أما الجيش السوداني، فهو حاضر سياسياً، ضعيف ميدانياً. نفوذه الرمزي يتآكل لصالح قوى محلية ومليشيات جديدة بدأت تظهر في أطراف كردفان والنيل الأزرق. وبحسب قراءات أمنية بريطانية وفرنسية، فإن “زمن الدولة المركزية في الخرطوم انتهى، على الأقل في الأفق المنظور”. ما يجري الآن ليس إعادة ترتيب السلطة، بل إعادة تحديد من يملك السيطرة على المجال العام، ومن يملك القدرة على التمويل، ومن يملك الشرعية الصامتة.

التقدير الواقعي يشير إلى أن اللجنة الرباعية لا تتحرك نحو تسوية بالمعنى الكلاسيكي. بل تعمل على تحقيق توازن مقبول بين القوى المؤثرة، دون كسر نهائي لأي منها. المطلوب هو “إدارة القتال” لا وقفه التام، وضبط مخرجاته الاقتصادية والسياسية في حدود لا تهدد مصالح الأطراف الخارجية.

النقطة المفصلية القادمة ستكون كيفية التعامل مع الدعم السريع: هل يتم دمجه تدريجياً في هياكل الدولة؟ أم يُعاد تصنيعه كفاعل سياسي–أمني مستقل؟ واشنطن تميل إلى الخيار الأول، بشرط احتواء القيادات العليا، بينما القاهرة تعتبر ذلك تهديداً مباشراً. الإمارات ترى أن حفظ هيكل القوة الحالي هو الضامن لمصالحها الاقتصادية في الذهب والموانئ. وروسيا، في الهامش، تُراقب، وتُراهن على موقع في البحر الأحمر، إن استطاعت الدخول من بوابة بورتسودان.

تحت الرماد : السؤال ليس ما إذا كانت الرباعية قادرة على صنع السلام، بل ما إذا كانت قادرة على تثبيت توزيع نفوذ قابل للتمدد دون انفجار.
ما يجري الآن ليس تسوية، بل تشكيل توازن جديد داخل دولة لم تعد موجودة.

إرسال التعليق

لقد فاتك