د.جودات الشريف يكتب : حكومة التأسيس ورحلة بناء الدولة الرشيدة القائمة على حوكمة المؤسسات
في اللحظة التي يتهيأ فيها تحالف السودان التأسيسي (تأسيس) للانتقال إلى مرحلة جديدة من النضال السياسي، وهو يتقدّم إلى الواجهة لمهمة تشكيل حكومة التأسيس، لا بوصفها سلطة تنفيذية تقليدية، بل باعتبارها حلقة مفصلية في مسار بناء الدولة السودانية الجديدة. لقد كانت مقالاتنا الأربع السابقة من هذه السلسلة بمثابة تدرّج تأملي في الوعي التأسيسي: من تفكيك الخطاب السياسي المناوئ للميثاق، إلى رسم معالم الدولة الجديدة وهياكلها، مرورًا بلحظة التأسيس الكبرى، وصولًا إلى التطلّع نحو حكومة تعكس العقد الاجتماعي الجديد. واليوم، يتقدّم هذا المقال لا ليُكرّر ما قيل، بل ليضع أمامنا الاختبار الحقيقي: كيف تُترجم تلك الرؤى إلى واقع؟ كيف نضع كوابح حتى لا تتحول الحكومة إلى غاية بذاتها، بل تبقى أداة لبناء دولة رشيدة، تُحكم بمؤسسات، وتُراقب بإرادة الشعب؟
لم ينجز النضال التراكمي للشعوب السودانية مجرّد إسقاط الأنظمة أو تفكيك بنيان النظام المركزي القابض، بل أعاد تعريف الوعي الجمعي بما تعنيه الدولة، والمواطنة، والسلطة، وموقع الإنسان السوداني فيها. ومن هذا الوعي التأسيسي وُلد الميثاق، والدستور، ومن الميثاق والدستور تبلور مشروع حكومة التأسيس، بوصفه امتدادًا لإرادة تاريخية سعت إلى تحرير الدولة من قبضة أصحاب الامتيازات التاريخية، وإعادة بنائها على أسس العدالة والمساواة ومشاعة الفرص. لكن الفارق الجوهري اليوم هو أن التزامات التحالف تضع جميع الشركاء ولأول مرة أمام مسؤولية ترجمة الميثاق والدستور إلى واقع، لا أمام إغراءات التنازل أو خداع التسويات. إن حكومة التأسيس ليست حصائد ثورية أو توازن قوى مرحليّ؛ بل هي مسؤولية تاريخية لترجمة الوعي بمطلوبات المرحلة إلى مؤسسات دولة، وتحويل المطالب إلى سياسات. ولهذا فإن أول اختبار لهذه الحكومة لن يكون في قدرتها على الإمساك بالسلطة، بل في قدرتها على احترام جوهر التحالف ومضامين الميثاق والدستور الذي حملته دماء أهل السودان.
في هذا السياق، يمكن أن نستدعي تجربة تيمور الشرقية، تلك الدولة الصغيرة التي خرجت من سنوات الاستعمار والعنف الدموي، لتقف فجأة أمام سؤال: كيف تبني الدولة دون أن تقع في فخ الانتقام والتشفي أو إعادة إنتاج القهر؟ فاختار قادتها، برغم كل الجراح، بناء مؤسسات مدنية عادلة، لا آلة للثأر وتصفية الحسابات. لقد فهموا أن الانتقال من الثورة إلى الدولة يتطلب ضبطًا أخلاقيًا ووعيًا سياسيًا عميقًا. وكما تقول إحدى مقولات العلوم السياسية: الثورات الناجحة لا تُقاس بعدد اللافتات، بل بعدد المؤسسات التي تترجم شعاراتها.
في المخيال أو الذاكرة السياسية السودانية، كثيرًا ما يُستدعى مفهوم “الدولة الرشيدة” كحلم غائم أو شعار مستقبلي مؤجل. غير أن اللحظة التأسيسية تفرض علينا كسر هذا التعاطي الرمزي النمطي، والانتقال من الحلم إلى المشروع، ومن الأمل إلى البنيان. فالرشد في الحكم ليس فضيلة أخلاقية فقط، بل خطة سياسية وإدارية قابلة للبناء إذا توفرت الإرادة والمؤسسات. لقد أوضحنا في مقال “من الميثاق إلى الدولة” أن السيادة الحقيقية لا تتجلى في رفع الرايات ولا في صيغ الخطاب الوطني، بل في القدرة على بناء مؤسسات قادرة على تفكيك قبضة المركز وإعادة السلطة إلى الشعب. واليوم، تمثل حكومة التأسيس الفرصة الحقيقية لتأسيس الدولة الرشيدة، لا فقط عبر نيات الإصلاح، بل من خلال تبنّي منهج الحوكمة كمرتكز رئيسي في كل مفصل من مفاصل الدولة.
تُعرّف الحوكمة (Good Governance) في الأدبيات السياسية الحديثة على أنها جملة من المبادئ تشمل: المساءلة، الشفافية، المشاركة، الفعالية، الإنصاف، واحترام القانون. وهي ليست مفاهيم تنظيرية، بل أدوات عملية يمكن قياسها وتطبيقها، كما أثبتت نماذج عديدة في الجنوب العالمي. خذ مثلًا تجربة بوتسوانا، تلك الدولة الإفريقية الصغيرة التي لم تُعرف بثورات عارمة أو موارد ضخمة، لكنها أصبحت نموذجًا إفريقيًا نادرًا في الحكم الرشيد. فبفضل نظام مؤسسي واضح، وآليات رقابة مستقلة، وشفافية في إدارة الموارد، بنت بوتسوانا لنفسها مكانة بين الدول الأكثر استقرارًا في القارة، وبأقل ضجيج سياسي.
وبالعودة إلى السودان، فإن استحقاق الرشد لا يمكن اختصاره في شعار مكافحة الفساد أو (فقه التحلل) المبتدع، بل في الإجابة على أسئلة جوهرية: هل تُدار الموارد وفق أولويات الشعب السوداني؟ هل تتم ترقية الكفاءات لا أهل الولاء فقط؟ هل تُحكم الدولة عبر نُظم لا رغبات أفراد؟ وكما أشرنا في مقال “ما بعد لحظة التأسيس”، فإن أي حكومة لا تُجسّد روح الميثاق عبر بُنى مؤسسية تُخضع نفسها للمساءلة، فإنها تُعيد إنتاج الدولة المركزية النخبوية بوجه ناعم. ولذلك، فإن الرشد ليس حالة مثالية، بل مشروع يُبنى بقرارات واضحة، وإرادة لا تخاف من تفويض الشعب، ولا من رقابته.
من أعقد أمراض الدولة السودانية المزمنة أن المؤسسات لم تكن في يوم من الأيام أقوى من الأشخاص الذين يتولّونها عسكريًا أو عبر تزييفٍ انتخابيّ. ظلّت الدولة، في بنيتها العميقة، قائمة على الولاء الإثني والجغرافي لا الكفاءة، وعلى العلاقات الشخصية وليس النُظم الضابطة، حتى تحوّلت الوظائف العامة في الدولة إلى مغانم، والمناصب إلى حصص عشائرية أو فئوية. ولذلك فإن بناء دولة رشيدة لا يكون بتغيير الأشخاص، بل بكسر الحلقة الجهنمية التي تجعل السلطة الشخصية أقوى من المؤسسة، والحاكم أهم من الحكم.
في مقالاتنا السابقة، وتحديدًا في “لحظة التأسيس: من الهامش إلى العقد الاجتماعي”، بيّنا أن أزمة السودان ليست في غياب الدولة، بل في تشوّه بنيتها وسوء تموضعها المتحيز داخل المجتمع (ثقافة مداعاة المُلاح). فقد احتكرت السلطة دون أن تخدم، وراكمت القهر دون أن تبني ثقة، فانهارت حين واجهتها ثورات الناس وغضب الهامش في أكثر من مرة. ومن هنا، فإن حكومة التأسيس أمام مهمة حيوية: ترسيخ مبدأ أن المؤسسة هي الحاكمة، لا الحاكم، وأن المنصب ليس امتيازًا، ولكنه وظيفة مقيدة بالقانون والرقابة (a role bound by law and oversight).
وهذه ليست شعارات ثورية، بل مبادئ عملية يمكن غرسها في قوانين الخدمة العامة، وفي نظم إدارة الموارد، وفي آليات التعيين والمحاسبة. نستحضر هنا تجربة كولومبيا، الدولة التي عانت عقودًا من الحرب الأهلية والعنف الدموي، لكنها –ضمن إصلاحاتها بعد اتفاقات السلام– أعادت تشكيل مؤسسات الشرطة، والقضاء، والخدمة المدنية، بحيث تُدار بعيدًا عن نزوات وشهوات السياسيين. حيث تم إدخال مراقبة مدنية مجتمعية على أداء المؤسسات، فجعلت من الدولة كيانًا يخدم الناس لا يتحكم فيهم. ومثلما حذّرنا في “قراءة نقدية في مقال مفاهيم ومصطلحات سياسية…” من إعادة تدوير أدوات الدولة القديمة بمصطلحات جديدة، فإن المطلوب اليوم ليس فقط إطلاق يد حكومة التأسيس، بل تقييدها بقوة المؤسسات التي تحكم الجميع، وتُخضع الجميع، دون استثناء. ففي الدولة الرشيدة، الموظف لا يُدين بولائه لشخص، بل للدستور. والمدير لا يُخيف مرؤوسيه، بل يُقيّم وفق إنتاجه. والوزير لا يمتنّ على الشعب، بل يخضع للمساءلة العلنية.
في سياق ما بعد النزاعات والانهيارات الكبرى، غالبًا ما تُختزل الحكومات الانتقالية في مهام سياسية وإدارية: ترتيب الحكم، تأمين الخدمات، هندسة الانتخابات (هذا يُشخّص بالتمام والكمال حد عقلية النخب السودانية). لكن في الحالة السودانية الراهنة، نثق بأنه لا يمكن أن تختبئ حكومة التأسيس وراء هذا الفهم الضيق. فهي لا تُكلّف فقط بترتيب المشهد، بل يجب أن تكون محكومة باختبار أخلاقي صارم: هل ستفي بالعهد الذي قطعته دماء الشهداء؟ وهل ستكون وفية لجمهور الهامش والضحايا والمحرومين؟ ليست الشرعية في هذه المرحلة مجرد نص دستوري أو توازن قوى، بل هي -كما أوضحنا في مقال “ما بعد لحظة التأسيس”– شرعية مشتقة من وجدان ثوري ووعي شعبي لا يغفر الانحراف، ولا يرحم الخذلان.
ومن هنا، فإن أول معركة لحكومة التأسيس ليست ضد المعارضة، بل ضد ذاتها: هل تنجح في أن تكون استثناءً أخلاقيًا في بيئة استثنائية من الخذلان التاريخي؟ إن أحد أكثر دروس التاريخ إيلامًا هو أن تحالفات المعارضة السودانية التي دائمًا ما تصل إلى السلطة باسم التغيير، قد تكون أول من يخون قيم التغيير نفسه. ولذلك فإن الأمانة السياسية تبدأ من الاعتراف بأن هذه الحكومة جاءت باسم الضحايا والمحرومين والمقهورين، لا باسم مكونات التحالف فحسب؛ وباسم المجتمع، لا باسم التوافقات فقط؛ وباسم الثورة، لا باسم المواءمات.
هنا فقط يمكن أن نستحضر تجربة مانديلا، ولكن من زاوية جديدة: لا من زاوية التسامح أو المصالحة، بل من قراره الصارم بعدم الترشح لولاية ثانية، رغم شعبيته الجارفة. لقد أراد أن يُعطي مثالًا أخلاقيًا ودرسًا مجانيًا مفاده أن السلطة تكليف مؤقت، وليس امتيازًا دائمًا. لقد كانت وما زالت تجربته تلك تمثل رسالة عميقة لكافة حكام القارة وخارجها: لا توريث، لا تمسك، لا تأليه. وكما جاء في إحدى مقولات مفكري أفريقيا المعاصرين: الثورة لا تنتصر حين تمسك بالسلطة، بل حين تحترم حدّها الأخلاقي.
وفي هذا السياق، فإن نجاح حكومة التأسيس يُقاس ليس فقط بما تحققه، بل بما تتجنب الوقوع فيه: لا للمحاباة، لا للتمكين المضاد، لا لتأليه الرفاق، لا للتشفي السياسي، لا لإغراء التمديد. وحين تنجح الحكومة في ترسيخ هذه المبادئ، فإنها تُعيد تعريف الحكم نفسه: من سلطة فوق المجتمع، إلى أداة في خدمته؛ ومن كيان مغلق، إلى عقد مفتوح مع أهل السودان، يخضع للنقد والمساءلة، ويحتكم لمعيار وحيد: الوفاء للوجدان العام.
لم تكن حكومة التأسيس يومًا مجرد استحقاق سياسي أو ترتيب إداري كما ذكرنا، بل هي لحظة امتحان وطني وأخلاقي لجوهر المشروع السوداني الثوري التراكمي نفسه. إنها البوابة التي نعبر عبرها من زمن الغضب والنكد والانتفاضات المسروقة الأحلام، إلى زمن البناء الهادئ والمثابر؛ من ثورة تهدم إلى دولة تؤسس؛ ومن شعار يُرفع، إلى مؤسسة تُبنى. لقد حاول هذا المقال أن يضع بين يدي القارئ مفاتيح العبور نحو الدولة الرشيدة القائمة على حوكمة المؤسسات، ليست بوصفها حلمًا مؤجلًا، بل باعتبارها مشروعًا ممكنًا، شريطة التزام حكومة التأسيس بخط ميثاقه ودستوره، وسارت على هدي التجارب الإنسانية العادلة، وتسلّحت بحكمة السياسة، نائيًا عن شهوة السلطة.
وكما قلنا في المقالات السابقة: المؤسسات لا تُبنى بنوايا الثورة، بل بتشريعاتٍ تترجم مطالبها واقعًا، وبأنظمة تُخضع الجميع لرقابة الناس والقانون. واليوم، تبدأ الرحلة الصعبة. لا يكفي أن نصل إلى الحكم باسم الهامش العريض، بل علينا أن نحكم باسم الإنسان.
في المقال القادم السادس والختامي من هذه السلسلة، سنتجاوز الحديث عن الحكومة كأداة، وننفتح على الأفق الأشمل: ملامح الدولة السودانية الجديدة، تلك الدولة التي نحلم بها، ونناضل من أجلها، ونسعى لأن تكون: دولة للكل، لا دولة على الكل؛ دولة القانون والمؤسسات والعدالة؛ وليس دولة الامتيازات والغلبة والأشخاص_ أي دولة (اللُقمة الكبيرة البتشتت الضرا)
إرسال التعليق