المودودي الدود يكتب :الجيش السوداني: من أداة استعمارية إلى حارس الحاضنة الاجتماعية. - صوت الوحدة

المودودي الدود يكتب :الجيش السوداني: من أداة استعمارية إلى حارس الحاضنة الاجتماعية.

لم تولد الدولة السودانية عند لحظة الاستقلال عام 1956 كمشروع وطني جامع بل جاءت امتدادًا لمنظومة استعمارية حافظت على تراتبية اجتماعية وثقافية جذرها ما يمكن تسميته بالحاضنة الاجتماعية تلك البنية السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشكلت خلال الحقبة الاستعمارية كشبكة امتيازات بنيوية للنخب القبلية والطائفية في المركز النيلي، وأُعيد إنتاجها بعد الاستقلال لتصبح الإطار الخفي الذي يحكم علاقات القوة في الدولة السودانية الحديثة.

كان الجيش السوداني تجسيدًا حيًا للحاضنة الاجتماعية التي تُعرّفها ورقة الدولة الغولة كبنية غير معلنة تحوّلت إلى وعاء لإنتاج النخب الحاكمة ومرجعية لصياغة هوية الدولة على مقاس مكونات معينة كالقبائل النيلية فالحاضنة هنا ليست منطقة جغرافية فحسب بل منظومة امتيازات بنيوية تحميها أدوات الدولة منها الجيش نفسه. وهو ما يفسر تصميم التجنيد الانتقائي منذ الحقبة الاستعمارية، حيث جُند أبناء الشمال النيلي في الوحدات النظامية بينما حُصرت مجموعات الأطراف في وحدات غير نظامية أو مُهمَّشة وهو انحياز استمر بعد الاستقلال ليُكرس تفاوتًا جهويًا أصبح سمةً أساسية للدولة السودانية.

نشأ الجيش السوداني في عهد محمد علي باشا (1821) كأداة لإمبراطوريته التوسعية، حيث جُند السودانيون قسرًا في حروب بعيدة مثل المكسيك (1863). ومع أن بعض المؤرخين كإيفالد يرون أن هذه المرحلة زرعت بذور العسكرة الاستعمارية، إلا أن آخرين مثل عبد الوهاب الأفندي يشيرون إلى أن مشاركة السودانيين في الجيش العثماني خلقت وعيًا عسكريًا مبكرًا، وإن كان مشوهًا. لاحقًا، وعند الاحتلال البريطاني المصري، صُمّمت قوة دفاع السودان لتكون شرطة استعمارية لا جيشًا وطنيًا، مهمتها قمع الثورات وتأمين حدود المستعمرة بأقل كلفة ممكنة.

تجنيد انتقائي وهيمنة إثنية

اتبعت الإدارة البريطانية سياسة تجنيد مقصود، خصصت بموجبها 80% من الوحدات النظامية لأبناء الشمال النيلي، فيما جُنّدت مجموعات أخرى تنحدر من دارفور وكردفان والشرق في وحدات غير نظامية استُخدمت لحراسة الحدود أو قمع الثورات، كما في أحداث 1924. وتمثل هذه السياسة سابقة لتقسيم العمل العسكري في السودان على أسس جهوية وهي سابقة بقيت بعد الاستقلال إذ حافظ الجيش على بنيته الإثنية، وشكّل أبناء ثلاث قبائل شمالية نحو 70% من الضباط.

أُغلقت المدرسة الحربية بعد ثورة 1924 خوفًا من صعود ضباط وطنيين ولم تُفتح مجددًا إلا لمواجهة تهديد الاحتلال الإيطالي في الحرب العالمية الثانية. وحتى مع ما سُمّي بالسودنة فإن الضباط تم اختيارهم بعناية لتفادي أي انتماء سياسي، وضُبط مسار ترقيتهم بما يخدم مشروع السيطرة لا التغيير. هذا النمط من التجنيد لم يكن مجرد سياسة عسكرية بل تعبيرًا عن فلسفة الحاضنة الاجتماعية التي رأت في أبناء المناطق النيلية العمود الفقري للدولة بينما نظرت للأطراف كمصادر للعمالة الرخصة والقوة القتالية المؤقتة

الجيش كذراع للحاضنة الاجتماعية

تمثل الجيش السوداني الذراع التنفيذي للحاضنة الاجتماعية حيث تحول إلى أداة فعالة في ترسيخ نظام المحاصصة الجغرافية والثقافية الذي أنتجته الحقبة الاستعمارية. فمنذ تأسيسه كقوة دفاع السودان تحت الإدارة البريطانية، تم تصميمه كأداة محكمة للسيطرة الاجتماعية، حيث جرى انتقاء مكوناته البشرية بعناية فائقة لضمان ولائها المطلق لمركز السلطة، مع إقصاء متعمد لأي تمثيل حقيقي لمكونات المجتمع الأخرى. ومع لحظة الاستقلال، لم تُعاد هيكلته على أساس وطني جامع، بل استُخدم لضمان استمرار السيطرة على الأطراف المهمشة، وقمع أي حراك يطالب بإعادة توزيع السلطة أو العدالة.

وفي هذا السياق، تُشير المؤرخة جانيت ج. إيوالد في دراستها حول تكوين الدولة في وادي النيل إلى أن الجيش السوداني، منذ جذوره في التركية لم يكن جهازًا يعكس إرادة الشعب، بل أداة للغزو الداخلي والتجنيد القسري، حيث تم استخدام مجتمعات غرب السودان تحديدًا كمخزون بشري لتأمين القوة العاملة والجنود، دون أن تكون لهم سلطة فعلية أو تمثيل في بنية القيادة.

هذا النمط، كما توضّح، لم ينتهِ مع الاستقلال، بل أُعيد إنتاجه ضمن الدولة الوطنية التي استخدمت الجيش كذراع لمركزية القرار، وقمع التطلعات الجهوية والعدالة القاعدية. وبهذا، أصبح الجيش أحد الأدوات الأساسية لاستدامة الحاضنة الاجتماعية النيليّة، بدلًا من أن يكون مؤسسة وطنية حامية للسيادة والمجتمع.

من عبود إلى البشير الجيش يعيد إنتاج
وظيفته

لم يكن انقلاب الفريق عبود في 1958 قطيعة مع الاستعمار، بل استمرارًا له بلغة محلية. عبود، ابن المدرسة الحربية الاستعمارية، لم يطرح مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل تحالف مع الزعامات التقليدية لإعادة تموضع السلطة في المركز وقمع الأطراف، لا سيما الجنوب. ومضى في عسكرة الحياة العامة دون مراجعة لعقيدة الجيش أو بنيته.

تكررت الدائرة ذاتها في انقلابي نميري (1969) والبشير (1989). فالأول استعان باليساريين والقوميين، لكنه كرّس ذات البنية السلطوية. والثاني أدخل الجيش في مشروع أيديولوجي إسلامي صهره ضمن دولة الرسالة، دون أن يعيد النظر في عقيدته الأمنية ولا تركيبته الاجتماعية. والنتيجة جيش ينتمي سياسيًا وأيديولوجيًا للمركز، ولا يرى نفسه ملزمًا بحماية التعدد القومي والاجتماعي في السودان.ما يميز انقلابات عبود ونميري والبشير أنها لم تكن انقلابات على النظام فحسب، بل كانت صراعات داخل الحاضنة الاجتماعية نفسها، حيث سعت كل مجموعة إلى إعادة توزيع الامتيازات ضمن نفس الدائرة الضيقة.

تيارات بلا مشروع تحرري

خلال العقود الماضية، لم يكن الجيش السوداني كتلة صماء، بل عرف تباينات داخلية يمكن تصنيفها ضمن ثلاثة تيارات رئيسية:

تيار تقليدي محافظ، ورث تقاليد الانضباط العسكري من الحقبة الاستعمارية، دون أن يطور رؤية وطنية أو مساءلة ديمقراطية. بقي هذا التيار وفيًا لفكرة الولاء غير المشروط للسلطة المركزية، واعتبر السياسة تهديدًا لوحدة المؤسسة.

تيار قومي ثوري، تأثر بتجارب الضباط الأحرار في مصر، ووجد تعبيره في انقلاب 1969 لكنه فشل في تفكيك البنية الإثنية للجيش أو إدماج الهامش، وظل محصورًا في نخب العاصمة والنيل.

تيار تقني بيروقراطي، تبلور خاصة منذ تسعينيات القرن الماضي، وركّز على الكفاءة الفنية والإدارية، لكنه تجنب طرح أسئلة الانتماء والعدالة داخل المؤسسة.
ما غاب تمامًا هو تيار وطني ديمقراطي يعيد تعريف وظيفة الجيش كقوة مهنية خادمة للشعب، لا كأداة لإعادة إنتاج الامتيازات الاجتماعية والجهوية. وهذا الغياب لا يُفهم فقط كفشل سياسي، بل كتعبير عن عمق الحاضنة الاجتماعية التي تمنع نشوء مثل هذا التيار

من توريت إلى الخرتوم العنف كعقيدة لا كعرض

ما جرى في الجنوب لعقود، ثم في دارفور، وجبال النوبة، والشرق، وصولًا إلى حرب 15 أبريل، لم يكن انحرافًا عرضيًا في سلوك بعض الأفراد داخل المؤسسة العسكرية، بل كان تعبيرًا بنيويًا عن وظيفة تأسيسية للجيش السوداني بوصفه أداة قمع، لا حامية للمواطنة. هذا الجيش، الذي بُني على أساس الفرز الجهوي والإثني، مارس العنف لا كاستثناء، بل كقاعدة.

وقد تجلّى هذا المنطق مبكرًا في تعاطي الجيش مع تمرّد توريت عام 1955، حين وُوجهت احتجاجات الجنود الجنوبيين بالقمع الوحشي، ومُنحت بعدها مؤسسة الجيش تفويضًا لقمع الجنوب كمجال غير وطني يجب إخضاعه.لم يكن تمرد توريت مجرد اضطراب محلي، بل أول لحظة تكشف فيها الدولة عن ميلها للتعامل مع الجنوب كمجال أمني لا سياسي، وكجسم غريب لا كشريك وطني. تكرّر المشهد في عهد عبود عبر حملات تعريب قسري، وتواصل في كل العهود حتى صار العنف ضد الهامش جزءًا من عقيدة الجيش ذاته.
لكن الذروة جاءت مع حرب 15 أبريل 2023، التي لم تكن كما زعمت المؤسسة العسكرية ردًا على تمرّد ميليشياوي، بل رد فعل هستيري ضد عملية التحول الديمقراطي الوشيكة بعد ثورة ديسمبر، وضد صعود قوى جديدة من خارج الحاضنة الاجتماعية التي حكمت السودان منذ 1956. لقد كانت حربًا وقائية ضد الديمقراطية وضد المنافسين الجدد الذين تحدّوا هيمنة النخب النيليّة على جهاز الدولة.

وفي هذه الحرب، كشّر الجيش عن وجهه العرقي الحقيقي. ارتُكبت انتهاكات واسعة ضد المدنيين في كردفان ودارفور، شملت القصف العشوائي، والتجويع، والاعتقال، بل وصل الأمر إلى استخدام أسلحة كيميائية ضد مناطق مأهولة. وفي الجزيرة، نُفذت عمليات قتل على أساس إثني بحت، راح ضحيتها الآلاف. أما في الخرطوم، فقد شُنّت حملات تصفية جسدية وذبح جماعي ضد مجموعات عرقية بعينها، في سلوك لا يمكن فهمه إلا باعتباره إبادة سياسية وعرقية في آن.

هذا ليس جيشًا وطنيًا. هذه مؤسسة وظيفتها التاريخية حماية نظام الامتياز، لا الدولة. وإن لم يتم تفكيكه، فستبقى كل محاولة لبناء سودان جديد مجرّد حلم في قبضة بندقية قديمة.

تفكيك الجيش مدخل لإعادة التأسيس

لم يعد ممكنًا الحديث عن إصلاح الجيش السوداني كخيار قابل للحياة، فهذه المؤسسة قد بُنيت منذ نشأتها لخدمة الحاضنة الاجتماعية النيلية، وأُعيد إنتاجها طوال قرن ونصف كأداة قمع وحماية لامتيازات نخبوية، لا كحارس للوطن والمواطنة. إن أي محاولة لترميم هذه المؤسسة لن تخرج عن كونها عملية تجميل لبنية مشوّهة جوهريًا، تشكّلت عقيدتها وتقاليدها في ظل الاستعمار، ونمت في كنف أنظمة عسكرية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالمساواة.

لذلك، فإن المدخل الحقيقي لبناء وطن جديد لا يكمن في اصلاح الجيش، بل في تفكيكه بالكامل، وإنهاء دوره المؤسسي والتاريخي كحارس لمشروع الإقصاء. هذه الخطوة الجذرية يجب أن تتبعها عملية تأسيس جيش وطني جديد باسم جديد، بعقيدة جديدة، وبهياكل تمثيلية تضمن التوازن الإقليمي والعدالة الاجتماعية. جيش يولد من رحم التوافق الوطني، لا من رحم النخبة المتغوّلة.

هذا الجيش الجديد يجب أن يُبنى على أساس التجنيد المتوازن من كل أقاليم السودان، ويخضع بالكامل لسلطة مدنية ديمقراطية، ويُفصل عن أي نشاط اقتصادي أو أيديولوجي، وتُصاغ عقيدته على أساس حماية المواطنين، لا قمعهم.
لا يمكن بناء دولة مدنية ديمقراطية في ظل مؤسسة تحتكر العنف باسم الماضي. لا بد من قطيعة كاملة مع الإرث العسكري للجيش القديم. إن أي عقد اجتماعي جديد لا يكتمل دون تأسيس جيش جديد يعكس روح السودان المتعدد، لا أدواته الاستعمارية القديمة. فكما أن الدولة لا تُبنى من هياكل الاستبداد، فإن السودان لا يُحمى بجيش وُلد لقمعه.

إرسال التعليق

لقد فاتك