جودات الشريف يكتب : من الميثاق إلى الدولة: رؤى لتشكيل هياكل التحالف وبناء السودان الجديد
ي قلب نيالا، المدينة التي لم تنحنِ رغم ويلات الحرب، أُعلن عن تشكيل الهيئة التأسيسية القيادية لتحالف “تأسيس”، بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، والكمرد عبد العزيز آدم الحلو نائبًا له، في خطوة تُعدّ أولى التجليات العملية لتحويل الحراك الشعبي المطلبي والسياسي الثوري من مرحلة الميثاق إلى مرحلة الدولة.
الميزة الإيجابية الفارقة أن هذا الإعلان قد تم من مدينة تنتمي للهامش وتعبّر عن نبضه، فهو لم يكن مجرد إجراء تنظيمي، بل إعلان عن بداية جديدة لسودان مختلف هذه المرة؛ سودان لا يُولد في الخرطوم الظالمة، ولا يستأذن نخبها ليُعلن ميلاده البازخ.
لقد أثبتت التجربة التاريخية السودانية، وبشهادة الواقع، فشل الأنظمة المركزية التي سيطرت عليها نخب أقلية محدودة، عنصرية وفاشلة، منذ الاستقلال. نظام حكم رأسي قائم على الاحتكار السياسي والفكري والثقافي والاقتصادي، شكّل نموذجًا للدولة التسلطية الريعية التي توزّع الموارد والسلطة على أسس الانتساب المناطقي والولاء السياسي، لا على قواعد المواطنة والعدالة والكفاءة. هذا النمط من الحكم خلق دولة متخيّلة في الخرطوم، لا تعكس تعدُّد السودان الحقيقي، ولا تحترم أقاليمه التي ظلّت خارج معادلة السلطة والثروة وفضيلة الإنصاف لعقود طويلة.
أمام هذا الانسداد، طرح ميثاق السودان التأسيسي ودستور تحالف تأسيس 2025 رؤية بديلة لبناء الدولة على أساس المشاركة الحقيقية لا الإقصاء، وعلى العدالة التوزيعية بديلًا للريع السياسي. وهذه الرؤية، من منظور علم السياسة، تندرج ضمن مشاريع “إعادة التأسيس السياسي”، حيث تُعاد صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، وتُستبدل الشرعية المناطقية أو الوراثية أو الانقلابية بشرعية تمثيلية تعاقدية.
في هذا السياق، تُطرح الفيدرالية واللا مركزية، ليس كترف إداري، بل كضرورة وجودية في دولة متعددة الإثنيات والثقافات والتضاريس. وقد أثبتت تجارب دول مثل الهند وسويسرا ونيجيريا أن الفيدرالية، رغم تعقيداتها، تتيح إدارة التنوع وضمان الاستقرار إذا أُحسن تصميمها ورُشد تطبيقها. أما المركزية المفرطة، فقد كانت أحد المحركات الرئيسة للصراعات المسلحة والانفصال في السودان، كما تشير أدبيات النزاعات في الدول متعددة الأعراق.
وليس هذا الطرح معزولًا عن التجارب الإنسانية الأخرى. فقد استطاعت دول مثل جنوب أفريقيا ورواندا وغيرها تجاوز المأساة العنصرية عبر عقد اجتماعي جديد، قاعدته الاعتراف والعدالة، لا الإقصاء والانتقام والتعسف. وفي التجربة الإثيوبية، رغم إخفاقاتها الأخيرة، مثّلت الفيدرالية الإثنية محاولة أولى لمنح المكونات القومية حق التعبير عن الذات داخل دولة جامعة. أما في السودان، فإن الفيدرالية المنشودة لا تقوم على المحاصصة، بل على المواطنة المتساوية، وتقسيم السلطات والموارد على أسس موضوعية وتنموية.
ولكي لا تظل هذه الرؤية حبيسة الوثائق، جاء تشكيل الهيئة التأسيسية لتحالف “تأسيس” كمؤسسة قيادية ذات شرعية ثورية تأسيسية، تؤهلها لأن تكون نقطة انطلاق لبناء المؤسسات الانتقالية المقبلة. المطلوب الآن هو أن تتجسد هذه المبادئ في بنية الحكومة المرتقبة: حكومة مدنية، ديمقراطية، خاضعة للمساءلة، تعكس إرادة الشعب السوداني.
ولكن لا يمكن لهذا البناء أن يتم من أعلى فقط. المطلوب انخراط جماهيري واسع، خاصة من أبناء الهامش الذين ظلّوا لعقود وقودًا للثورات دون أن يكونوا شركاء في الحكم. هذه المرة، لا مكان للظل، ولا شرعية مجانية ستُمنح بدون مشاركة شعبية واعية. يجب أن يكون صوت دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق، وشرق السودان، حاضرًا في مراكز القرار، لا مجرد تبرير لتمثيل رمزي كما في السابق.
إننا أمام لحظة تأسيس نادرة في التاريخ السوداني، لحظة تسمح لنا بأن نعيد تعريف الدولة على أسس جديدة، نابعة من إرادة شعوب الأقاليم السودانية، لا من الإرث النخبوي. الدولة التي نريدها لا تحكم بالعقيدة أو العرق، بل تُبنى على العقل والحق والمواطنة. العلمانية هنا ليست نقيضًا للدين، بل شرطًا للعدل، وضمانًا لحياد الدولة تجاه كل مكوناتها.
إن إعلان نيالا ليس نهاية، بل بداية لرحلة طويلة، تتطلب وعيًا واستعدادًا للتضحية، وقدرة على الحفر في الصخر. لكنها أيضًا لحظة أمل بأن السودان يمكن أن يولد من جديد، من رحم الهامش، وعلى أنقاض المركزية المهترئة.
ولأن التاريخ لا يرحم المترددين، فإن التحدي الأكبر اليوم هو: هل نملك الشجاعة لأن نُكمل ما بدأناه؟ هل نجرؤ على العبور من الميثاق إلى الدولة، ومن الحلم إلى المؤسسة؟
الإجابة، كما كانت دائمًا، تبدأ من الناس… وتنتهي إليهم.
ونقول ختامًا: (المرحاكة ركبت بتها خلاص)



إرسال التعليق