الطيب الحاج يكتب : العلمانية ضرورة تأسيسة لا خيار فوقي - صوت الوحدة

الطيب الحاج يكتب : العلمانية ضرورة تأسيسة لا خيار فوقي

ليست العلمانية ترفًا فكريًا ولا مجرّد خيار سياسي، بل هي ضرورة تأسيسية لكل مشروع وطني يسعى إلى بناء دولة عادلة، حيادية، تعددية، تماشيًا مع قانون “نفي النفي”، وهو قانون لا يزال فاعلًا، ويُعدّ ركيزة أساسية في التحليل الماركسي.

حين طالب الأمريكيون السود بحريتهم خلال القرن التاسع عشر، لم يكن العائق حكرًا على السياسيين أو رجال الدين المحافظين، بل شارك فيه أيضًا مثقفون بيض تنكّروا لدورهم النقدي، واصطفّوا مع منظومة القهر لا ضدها. ففي خمسينيات ذلك القرن، كتب أمثال جورج فيتزهو، أحد منظّري العبودية، أن العبودية ليست شرًّا بل خيرًا، فحاولوا تحصين القيد لا تفكيكه، وتأبيد التبعية لا مقاومة الظلم. وبدلًا من أن يقرأوا صرخة التحرّر بوصفها وعدًا إنسانيًا، سارعوا إلى شيطنتها بوصفها خطرًا على التماسك الثقافي واستلابًا لهوية المجتمعات البيضاء.

هذا المنطق المعكوس، أو “الجدل المقلوب” الذي يخلط عمدًا بين الحرية والفوضى، بين العدالة والمؤامرة، بين البناء والهدم، ليس من مخلفات الماضي، بل يُعاد إنتاجه اليوم في خطاب كثير من المثقفين التقليديين في العالمين العربي والأفريقي. يرفض هؤلاء العلمانية لا لأنها قمعية، بل لأنها “دخيلة”، لا لأنها تمييزية، بل لأنها “غربية”، لا لأنهم فهموها وناقشوها، بل لأنهم استسلموا للهيمنة الثقافية التي تعيد إنتاج الظلم من خلال أدوات الدولة الهامة: التعليم، والدين، والإعلام.

وفي السياق السوداني، ساهم عدد من المثقفين القوميين والإسلاميين، من أمثال حسن الترابي، في عرقلة الوصول إلى صيغة علمانية مدنية عادلة ومُواتية. فقد تبنّى الترابي مشروع “الأسلمة السياسية” بوصفها طريق الخلاص الوطني، مدّعيًا أن الشريعة تتفوّق على أي منظومة بشرية، فانتهى الأمر بتكريس دولة إقصائية، قامت على تديين المجال العام وتسييس الدين نفسه. وبذلك أُحبطت فرص بناء دولة جامعة تتجاوز الإثنيات والهويات الفرعية، مما أدى إلى كوارث وخيمة، كإنفصال الجنوب، وموت ملايين السودانيين بالجوع والبنادق.

كما ساهم مفكّرون قوميون سودانيون آخرون، مثل محمد أبو القاسم حاج حمد، في بعض أطروحاته، في تبنّي سرديات تلفيقية غير ديالكتيكية، ترى في العلمانية مجرّد أداة للهيمنة الغربية، بدل أن تُقرأ باعتبارها أداة تحرّر داخلي تضمن المساواة في ظلّ التعدد. وهكذا، بدل تفكيك البنى الإقصائية، جرى ترميمها فكريًا باسم الأصالة، وحُصّن الاستبعاد السياسي باسم الخصوصية الثقافية، وتم الحفاظ على الظلم بوصفه “هوية” لا عائقًا يجب إزالته.

إن ما يجمع بين منظّر أبيض يبرّر العبودية، ومثقف محلي يرفض العلمانية، هو هذا الالتباس الاستراتيجي بين الكوني العادل والغربي المهيمن. وكما أشار طارق رمضان، فإنّ الخلط بين ما هو عالميّ وما هو مفروض، بين العدل والهيمنة، هو ما يجعل كثيرين يقاومون قيَمًا عادلة لأنهم يتوهّمونها أدواتًا للاستعمار. وبهذا المنطق، تتحوّل الحرية إلى فوضى، والعلمانية إلى تغريب، والعدالة إلى مؤامرة.

وقد انتقد المفكر الكيني الراحل، نغوغي وا ثيونغو، هذا المنطق الاستلابي في كتابه فك استعمار العقل (1986)، حين قال إن نخب ما بعد الاستعمار لا تهدم الاستعمار بشكل جذري، بل تُعيد إنتاجه عبر رموز محلية، ولا تفكّك التبعية، بل تُشرّعها عبر خطاب “ثقافوي” يعيد الهيمنة بثوب تراثي آخر، أكثر وحشية من سابقه.

وفي السياق نفسه، نبّه المفكر السوداني عبد الله علي إبراهيم، في تحليلاته الثقافية، إلى أنّ النخب السودانية كثيرًا ما اختارت الحداثة “المشروطة” التي تهادن البنية التقليدية بدل تفكيكها، مما أفضى إلى مشروع وطني مأزوم، يراوح مكانه بين التحديث الشكلي والتقليد البنيوي. فبعض المثقفين، من موقع سلطوي أو تبريري، آثروا إدامة النموذج الأبوي على تبنّي منظومة مدنية تعترف بالتعدّد وتفصل بوضوح بين المقدّس والسياسي.

إنّ المثقف، الذي يُفترض فيه أن يكون حاملًا لوعد التنوير، وغارسًا لبذور التحرّر النقدي، كثيرًا ما ينقلب، في لحظة مفصلية، إلى حارس يقظ للنظام الرمزي القائم؛ لا يفتح الأسئلة بل يُغلقها باسم “الثوابت”، ولا يُحفّز المساءلة بل يُجهضها بذريعة “الهوية”، ولا يُحرّر الوعي بل يُكبّله بدعوى “الوفاء للتقاليد وصيانة التراث”. وهكذا، بدل أن يكون المثقف ضميرًا يقظًا يوقظ المجتمع من سباته، يصير فمًا ناطقًا بلسان السلطة الرمزية، يفرض الاستمرارية لا القطيعة، التبرير لا التحليل، المحافظة لا التغيير، والتقليد لا الاجتهاد.
إنّ خطورته لا تكمن في سلطته المباشرة، بل في قدرته على تبرير الهيمنة باسم الخصوصية، وقتل الأسئلة الكبرى باسم الانتماءات المطلقة. فهو لا ينصر الحقيقة، بل يهادن الأوهام، ولا يزعزع البنى الجامدة، بل يرمّمها، ولو على حساب حرية الإنسان.

فالحرية، كما بيّن أمارتيا سِن، ليست ترفًا غربيًا، بل ضرورة إنسانية شاملة. ومن يرفضها باسم “الخصوصية الثقافية” لا يصون الهوية بل يُجمّدها، لا يُعزّز الذات بل يُكرّس الانغلاق، لا يُقاوم الاستلاب بل يُعمّق التخلف.
إنه لا يطرح بديلًا نقديًا، بل يُعيد إنتاج التبعية بوجه محلّي؛ لا يُحرّر الهوية بل يُحوّلها إلى قوقعة. فالخصوصية التي تُستخدم ضد الحرية ليست خصوصية حيّة بل شكلية، لا متجذّرة في التاريخ بل مقطوعة عن تحوّلات العصر؛ هي دفاع عن الثابت لا تفاعل مع المتغير، تبرير للجمود لا نقدٌ للتغريب، حماية للهامش لا تحصينٌ للجواهر.
إنها موقف شكلي لا بنيوي، صوت مرتاب لا مشروع تحرّري، اجترار للماضي لا تأسيس للمستقبل القادم

إرسال التعليق

لقد فاتك