حين تدار الحروب من خلف الخطاب : فشلة الضربة ، بين تكتيك امريكا و مصيدة أسرائيل - صوت الوحدة

حين تدار الحروب من خلف الخطاب : فشلة الضربة ، بين تكتيك امريكا و مصيدة أسرائيل

لا تُدار الحروب الكبرى في زمن ما بعد الدولة عبر الصواريخ وحدها، بل في سردية الصاروخ نفسه، في ما يُعلن وما يُسرّب، في ما يُقال إنه فشل وقد يكون نجاحاً مخططاً. هذا هو جوهر ما نعاينه في المواجهة المفتوحة بين إسرائيل وإيران، ومن خلفهما الولايات المتحدة. فحين تتسرب تقارير حول عدم فعالية الضربات على منشآت نووية إيرانية، لا يجب أخذ الخبر كحقيقة صلبة، بل كجزء من ما تسميه أدبيات الحرب الحديثة بـ”هندسة الإدراك الاستراتيجي” – وهي أداة متقدمة في إدارة التصعيد الرمادي، تُوظف لصنع مساحات مناورة جديدة دون تجاوز العتبة الحرجة للحرب الشاملة.

ثمة احتمالان متقاطعان في بنية هذه الهندسة: إما أن إسرائيل من سرّبت ضعف الضربة لتوريط واشنطن أعمق في الحرب، أو أن الولايات المتحدة نفسها هي من هندس السردية، لتبرير الانتقال من الضربات المحدودة إلى انخراط أوسع تحت ذريعة “الردع غير المُكتمل”. في كلا الحالين، لا تكون الحرب قراراً بقدر ما تكون مخرجاً سردياً – مدروس، محسوب، ومتعدد الوظائف.

في السيناريو الإسرائيلي، تمارس تل أبيب ما يُعرف بـ”الضغط التعويضي”، أي دفع الحليف الأقوى إلى تحمّل الكلفة الاستراتيجية حين تعجز عن فرض الحسم التكتيكي. تسريب فشل الضربة يُظهر إسرائيل كطرف تحت التهديد النووي المباشر، ويُحرج واشنطن إن هي اكتفت بالرد الموضع المحدود. إنها مصيدة ذكية، تضع الولايات المتحدة أمام ثنائية محرجة: إما التوسع في الرد، أو القبول بتآكل الردع.

أما في السيناريو الأمريكي، فإن إعلان الفشل يمكن أن يكون مقصوداً بحد ذاته، لا بوصفه اعترافاً، بل بوصفه تبريراً مُهندساً لسياسة “الردع التصاعدي” – أي فتح الباب أمام تدريج القوة بذريعة الضرورة، وليس المبادرة. هنا، لا تكون الضربة هدفاً بل تمهيداً لشرعنة التصعيد القادم، في سياق يعيد للولايات المتحدة مركزية قرار الحرب والسلم، بعد عقد من التراجع الاستراتيجي النسبي.

الخطورة في كلا السيناريوهين أن السردية تتحول إلى أداة تعبئة، لا فقط إعلامية بل جيوسياسية. وضمن هذا الإطار، تدخل دول مثل العراق، اليمن، لبنان، والسودان في نطاق “المسرح الرمادي” – أي مناطق لا تُستهدف مباشرة، لكنها تُستخدم لتعديل توازنات الصراع.

السودان تحديداً، بحكم موقعه، وتعدد مراكز القرار فيه، وسواحل البحر الأحمر المفتوحة، مرشح لأن يتحول إلى فضاء لوجستي مؤقت، أو نقطة عبور لإمداد أو تهديد رمزي. هذا الخطر يتعاظم في ظل وجود فاعلين داخل مؤسسات رسمية يحتفظون بعلاقات بنيوية مع محور الإسلام السياسي–الإيراني، وقد يجدون في الصراع فرصة لإعادة التموضع الوظيفي تحت غطاء السيادة الوطنية.

تحت الرماد: في حروب الإدراك، لا يكفي أن تكون محايداً، بل يجب أن تكون قادرًا على إنتاج سرديتك الاستراتيجية الخاصة، أو تتحول إلى ساحة لصراع غيرك. وما يُكتب الآن عن فشل الضربة قد يكون، فعلياً، أولى مراحل نجاح جولة جديدة من التحكم بالمنطقة – لا عبر القوة، بل عبر إخراجها.

إرسال التعليق

لقد فاتك