سارة السعيد : تحت الرماد |السودان لم يكن يوماً دولة هشّة: لقد صُمّم ليكون دولة مفصلية — والعالم يدفع الثمن الآن
لم يكن السودان يوماً دولة هشّة؛ فقد صُمّم منذ بداياته الحديثة ليكون دولة مفصلية، لا دولة ضعيفة. والدولة المفصلية — بخلاف الدولة الهشّة — هي دولة تتقاطع فوق جغرافيتها منظومات خارجية متعارضة تتجاوز قدرتها على الامتصاص، فيتحوّل استقرارها إلى وظيفة إقليمية لا قدرة محلية. وعلى مدى ثلاثة عقود، ظلّ وصف “الهشاشة” يغطي هذه الحقيقة بتحليل تبسيطي مريح. لم يتفكك السودان بسبب ضعفه الداخلي فحسب؛ بل لأنه حُمّل منذ البداية أعباء بنيوية تعجز عنها قدرات أي دولة، ولأن مفهوم “الهشاشة” نفسه تحوّل إلى أداة تحليلية مضلِّلة تخفي تراكم الضغوط الخارجية التي لا تستطيع أي دولة — مهما بلغت قوتها المؤسسية — احتمالها.
يقع السودان في قلب واحدة من أكثر مناطق العالم كثافةً جيوسياسية: ضغوط البحر الأحمر، وتعقيدات الساحل، وحوض النيل، والقرن الأفريقي، والجزيرة العربية، إضافةً إلى تنافس القوى الكبرى من واشنطن وبكين إلى موسكو. ولا تتوقف هذه الضغوط عند القوى الدولية، بل تشمل أيضاً نماذج إقليمية متعارضة — خليجية، مصرية، وإثيوبية — تختلف رؤاها حول شكل السلطة والأمن والاقتصاد في السودان. لا توجد دولة أخرى في الإقليم تجتمع عليها هذه القوى في لحظة واحدة. حين تتزاحم ست منظومات خارجية فوق جغرافيا واحدة، يصبح الاستقرار هدفاً غير قابل للتحقق بالوسائل التقليدية. ما يحدث في السودان ليس انهياراً محلياً فقط، بل نتيجة مباشرة لتحويله إلى نقطة ارتكاز متناقضة تُعلَّق عليها مصالح لا يمكن التوفيق بينها.
وما يُسمّى “حرباً داخلية” ليس صراعاً محلياً على السلطة. إنه صراع بنيوي على الذهب الذي يعمل كنظام سيولة خارج الرقابة تموّله شبكات دولية؛ وعلى الموانئ التي يُعاد تشكيل السيطرة عليها بين قوى إقليمية ودولية؛ وعلى البحر الأحمر الذي يمر عبره 12% من التجارة العالمية؛ وعلى الهواجس الوجودية لإثيوبيا بوصفها دولة محاصرة بلا منفذ بحري؛ وعلى الخط الأحمر الأميركي الذي يمنع ظهور قاعدة روسية على الساحل السوداني. هذا العامل وحده يفسّر لماذا أصبح الاستقرار السياسي مستحيلاً بالمعنى التقليدي؛ ليس لأن السودانيين لا يتوافقون، بل لأن القوى الخارجية نفسها لم تتفق يوماً على شكل السودان الذي تريد رؤيته.
لهذا تفشل كل عمليات السلام بصورة يكاد منطقها أن يكون ميكانيكياً. انهارت مفاوضات جدة، وتعطّل مسار أديس أبابا، وانقسمت الإيقاد، وتجمّد الطرح المصري، وانتهت مشاريع الانتقال المدني قبل أن تبدأ. السودانيون يتحاورون حول السلطة، في حين تتصارع القوى الخارجية حول شكل الدولة نفسها. والساحتان لا تلتقيان، ولن تلتقيا، ما دام السودان موقعاً لاحتكاك إقليمي ودولي حيث لا مساحة لقرار سيادي مستقل.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال العوامل الداخلية. فالانقسام السياسي، وضعف المؤسسات، وتعدد مراكز القوة لعبت دوراً مكمّلاً وحاسماً في الأزمة. لكنها لم تكن كافية لوحدها لصنع الانهيار. فالتاريخ مليء بدول أشد ضعفاً من السودان لكنها لم تنهار لأنها لم تتعرض لهذا القدر من التحميل الخارجي. في السودان، تتولد الأزمة من تفاعل الضعف الداخلي مع الضغط البنيوي الهائل — وهو تفاعل يجعل الانهيار نتيجة حتمية لا خياراً سياسياً. وتبقى للفاعلين السودانيين قدرة على المناورة، ولكن ضمن هامش ضيق تحدده منظومات القوى الخارجية، لا خياراتهم الداخلية وحدها.
السودان لم ينهَر؛ لقد أُنهِر. فالدول المفصلية لا تتفكك نتيجة قصورها الداخلي فقط، بل تُدفَع نحو التفكك عبر الضغط والتجزئة والتحميل الزائد من قِبل قوى ترى في الفراغ فائدة أكبر ممّا تراه في قيام دولة مستقرة. ولهذا يريد الجميع نفوذاً في السودان، بينما لا يريد أحد مسؤوليته. أما أدوات الاستقرار التقليدية — تقاسم السلطة، الحكومات الانتقالية، الإصلاحات التقنية، ووقف إطلاق النار — فقد صُمّمت للدول الضعيفة، لا للدول المفصلية التي تتولّد هشاشتها من تضارب الإقليم قبل تناقض الداخل. وفي هذا السياق، يشبه السودان حالات عالمية مثل أوكرانيا وتايوان والكونغو، حيث لا ينتج الانهيار عن الضعف الداخلي فحسب، بل عن التقاء الضغوط الخارجية في نقطة واحدة.
يتقدّم السودان الان نحو واحد من أربعة مسارات كبرى تحكمها القوى الخارجية: دولة متجزّئة ترتبط خارجياً أكثر مما تتكامل داخلياً؛ اندماج تدريجي في منظومة أمنية–اقتصادية ناشئة حول البحر الأحمر؛ إعادة بناء جهاز أمني من الخارج يحلّ محلّ النموذج القديم للدولة؛ أو توازن طويل الأمد لا ينتصر فيه أحد ولا يتراجع الآخر. وكل هذه المسارات لا تنشأ من الداخل، بل من إعادة توزيع القوى الخارجية فوق الجغرافيا السودانية، وفق منطق الهياكل المتنافسة لا منطق الدولة الوطنية.
لن يفهم العالم السودان ما لم يتخلَّ عن رواية “الدولة الهشّة” ويتعامل معه بوصفه عقدة بنيوية في زمن السيولة الدولية. فالسودان ليس فشلاً محلياً، بل مرآة لطبيعة الانهيار في القرن الحادي والعشرين: انهيار لا يُصنع في الداخل، بل في تقاطع الهياكل الإقليمية والدولية التي تتصارع على مساحة واحدة. وفي هذا المعنى، لا يمثل السودان استثناءاً، بل النموذج الأول لما ستبدو عليه انهيارات الدول في المستقبل.



إرسال التعليق