الطيب عبد السلام : الإيمانُ والعقلُ في التجربةِ السودانيةِ: المهديُّ والزبيرُ باشا نموذجًا - صوت الوحدة

الطيب عبد السلام : الإيمانُ والعقلُ في التجربةِ السودانيةِ: المهديُّ والزبيرُ باشا نموذجًا

يبدو التاريخُ السودانيُّ وكأنّهُ يسيرُ في دوائرَ لا خطوطَ مستقيمةٍ؛ فكلُّ حقبةٍ فيه تُعيدُ صياغةَ العلاقةِ المعقَّدةِ بينَ الدينِ والدولةِ بوجهٍ جديدٍ، من غيرِ أن تغيّرَ جوهرَ السؤالِ القديمِ: كيفَ يمكنُ أن تتصالحَ الروحُ معَ السلطةِ؟

منَ الزبيرِ باشا، الذي أدركَ مبكرًا ضرورةَ التوازنِ بينَ الداخلِ السودانيِّ والعالمِ الخارجيِّ، إلى الثورةِ المهديةِ التي انطلقتْ من إيمانٍ صوفيٍّ حارٍّ، ثمّ إلى تجربةِ الإنقاذِ التي حاولتْ أن تُلبسَ الفكرةَ الدينيةَ ثوبَ الدولةِ الحديثةِ — تمتدُّ خيوطُ الفكرةِ ذاتها، خيوطٌ تبحثُ عن دولةٍ تعانقُ الإيمانَ دونَ أن تذوبَ فيه.

هذا المقالُ محاولةٌ لقراءةِ ذلك الامتدادِ، لا في سردِ الوقائعِ فحسب، بل في تحوّلِ الفكرةِ الدينيةِ السودانيةِ من التجربةِ الروحيةِ إلى المشروعِ السياسيِّ.

لعلَّ الثورةَ المهديةَ كانتْ الطريقَ البديلَ الذي كان بإمكانِ الزبيرِ باشا، رحمه اللهُ، أن يسلكَه. غير أنّ الرجلَ كانَ واعيًا بالظرفِ الدوليِّ، ومدركًا أنّ السودانَ لن يكونَ له وجودٌ فعليٌّ من دونِ اعترافِ العالمِ به، ومن دونِ دولةٍ قويةٍ تقفُ خلفَه. كما كانَ مدركًا في الوقتِ نفسه محدوديةَ الداخلِ السودانيِّ آنذاك في إقامةِ دولةٍ «حديثةٍ»، بالمعنى السياسيِّ والإداريِّ للكلمةِ.

لهذا تمسّكَ الزبيرُ بفكرةِ أنّ السودانَ جزءٌ من مصرَ، وكان متعاطفًا مع هذه الرؤيةِ، على أن يتمتّعَ السودانُ بحكمٍ ذاتيٍّ تحتَ قيادته. غير أنّ الخديويينَ رفضوا ذلك، إذ أرادوا السودانَ تابعًا لا شريكًا في القرارِ.

نجحَ الزبيرُ في معظمِ معاركه ضدَّ المصريينَ، لكنه لم يكن متمرّدًا على الدولةِ، بل ساعيًا إلى توسيعِ صلاحياته داخلها. وحين رأى فيه المصريون نفوذًا يتجاوزُ المألوفَ، أُبعدَ إلى جبلِ طارقَ.

استفادَ المهدويون لاحقًا من نجاحاته العسكريةِ ومن الالتفافِ الشعبيِّ الكبيرِ حولَه. فعديدٌ من قادةِ المهديةِ، وعلى رأسهم النورُ عنقرةُ، كانوا من رجاله، وكذلك الأميرُ عثمانُ دقنةُ، أحدُ كبارِ تجارِ الرقيقِ الذين تضرّروا من السياسةِ المصريةِ في مكافحتهِ وإيقافِ تجارته.

وما يرجّح هذا الربطَ أنّ الخليفةَ التعايشيَّ كان يرى في الزبيرِ باشا صورةً من «المهديِّ» المنتظرِ. وهذه الفكرةُ — فكرةُ المهديِّ — لها مكانةٌ راسخةٌ في المخيالِ الدينيِّ السودانيِّ المرتبطِ جذورًا بالتصوّفِ وعلمِ أهلِ الذوقِ. وهي الفكرةُ ذاتها التي نلمحُ أثرها لاحقًا في تجاربٍ مثل محمودَ محمدِ طه حين رأى نفسه «الأصيلَ الواحدَ»، أو في الخاتمِ عدلانَ حين أعلن مشروعَ «الاستنارةِ». غير أنّ لهذه القصصِ سياقاتٌ أخرى، لكلٍّ منها وقتُه المناسبُ.

كان الزبيرُ باشا تاجرًا ورجلَ دنيا، لا طالبَ زعامةٍ دينيةٍ. ولو سعى إليها لسبقَ المهديُّ في جمعِ السودانيين حولَه. لكنه كان رجلَ واقعيةٍ سياسيةٍ، مدركًا حجمه وحدودَ قوتهِ، وأبعدَ ما يكون عن المغامراتِ العسكريةِ التي خاضها المهدويون بدافعِ الحماسةِ الدينيةِ أكثر من الحساباتِ الدقيقةِ.

هذا الاندفاعُ المهدويُّ يجد جذوره في عقيدةِ التوكّلِ الصوفيةِ، وفي ظاهرةِ «السائحينَ» أو «الفقرا» الذين يتركونَ الدنيا خلفَهم ويهيمونَ في الأرضِ. ومع ذلك، لا أقصد هنا نفيَ قيمتهم أو التقليلَ من شأنهم، بل أُرجئُ الحديثَ عن هذه النقطةِ إلى مقامٍ آخرَ.

أعلنت المهدية استقلالَ السودان، وسعت إلى تأسيسِ بدايةٍ جديدةٍ ربما للإسلامِ ذاته، كما أشرتُ في مقالٍ سابق حول «الإسلامِ السودانيِّ». غير أنّ هذا الطريقَ الذي سلكتْه كان الزبيرُ باشا يدرك خطرَه سلفًا؛ فقد علم أنّ العالمَ لن يظلَّ على الحيادِ، وأن الداخلَ لم يكن مؤهّلًا لمجاراةِ التحوّلِ.

أعلنت المهدية استقلالَها من موقعٍ دفاعيٍّ، كأنّها تقول: نرفض الاعترافَ بالعالم قبل أن يرفضَ هو الاعترافَ بنا. وفي خضمِّ هذا التوترِ الفكريِّ، رأت المهدية في العالم خصمًا، ورآها العالم ثورةً غامضةَ الملامحِ. فجاءت نهايتها نتيجةً لتحدياتٍ داخليةٍ ومجاعاتٍ قاسيةٍ، غذّتها الأسئلةُ الكبرى حول القبيلةِ والعشيرةِ والولاء الدينيِّ والمواردِ الاقتصاديةِ، التي واجهتها المهدية أحيانًا بالصرامةِ أكثر من الحوارِ.

وحين أنهكَها الصراعُ الداخليُّ، كان الجيشُ الإنجليزيُّ يراقب من بعيدٍ حتى أدرك أن الظروفَ قد نضجت، فمدَّ يده إليها دون عناءٍ.

وأخيرًا، هذا النصُّ ليس محاكمةً للمهدية، وإن كان يتضمّن مراجعةً هادئةً، بقدر ما هو محاولةٌ لفهمٍ أعمق للإسلامِ السودانيِّ عبر رؤيةِ الحاضرِ في مرآةِ الماضي. فالشعراء — كما قيل — «لم يغادروا من متردّم»، وها هو أبو يزيد قد عاد إلى بسطامه، كأنّ التاريخَ السودانيَّ يعيد إنتاجَ نفسه في صورٍ متجددةٍ، كلُّها تحاول أن تجيب عن السؤالِ ذاته:

كيف يكون الدينُ طريقًا إلى الدولةِ؟

لقد عادت الفكرةُ في ثوبٍ آخرَ مع تجربةِ الإنقاذِ بقيادةِ الترابي، التي يمكن النظر إليها كامتدادٍ حديثٍ لذلك المزجِ بين الروحِ الدينيةِ والرغبةِ في التنظيمِ السياسيِّ. فالإنقاذُ لم تكن في جوهرها مشروعًا إداريًا فحسب، بل محاولةٌ لإعادةِ صياغةِ الدولةِ السودانيةِ في ضوءِ تصورٍ دينيٍّ شاملٍ.

الترابي — مثل المهديِّ من قبل — رأى في نفسه صاحبَ رؤيةٍ تتجاوز الحدودَ الوطنيةَ نحو عالمٍ إسلاميٍّ أوسع. غير أنّ التجربة واجهت التحدي ذاته الذي واجهته المهدية: حين يتقدّم الإيمانُ على العقلِ السياسيِّ، تتراجع قدرةُ المشروعِ على احتضانِ التنوّعِ.

وبين الحماسةِ والواقعِ، وبين المثالِ والممكنِ، تكرّر المشهدُ ذاته بملامحَ جديدةٍ.

هكذا ظلّ الإسلامُ السودانيُّ يتحرّك بين قطبين: التصوّفُ كملاذٍ روحيٍّ والحكمُ الدينيُّ كمشروعٍ سياسيٍّ.

وبين هذين القطبين ضاعت المسافةُ التي كان الزبير باشا قد رآها مبكرًا، حين أدرك أنّ بناءَ الدولةِ يحتاج إلى عقلٍ متبصّرٍ قبل أن يحتاجَ إلى عاطفةٍ مشتعلةٍ.

وربما يبقى السؤال الأعمقُ:

كيف يمكن أن نؤمنَ دون أن نحيلَ الإيمانَ إلى سلطةٍ تُقصي سواها؟
وكيف يمكن أن نحكمَ دون أن نُحمّلَ السياسةَ أثقالَ القداسةِ؟

لعلّ في تأمّلِ مسارِ السودان من الزبيرِ إلى المهديِّ إلى الترابي ما يشي بأنّ التاريخَ هنا لا يكرّر نفسه عبثًا، بل يُعيد طرحَ الأسئلةِ ذاتها في سياقاتٍ مختلفةٍ. فكلّ تجربةٍ حملت حلمًا بأن يُصبح الإيمانُ قاعدةً للعدلِ، غير أنّها كلّما اقتربت من السلطة اتّسع الفارقُ بين المثالِ والواقعِ.

ربما آن الأوان لأن يُنظرَ إلى الإسلامِ السودانيِّ لا كمشروعٍ سياسيٍّ، بل كتجربةٍ إنسانيةٍ مفعمةٍ بالحكمةِ والذوقِ، قادرةٍ على الإسهامِ في بناءِ الدولةِ دون أن تتلبّسَ بها.

فالتاريخُ، في جوهرهِ، ليس ساحةً للانتصاراتِ أو الإخفاقاتِ، بل مرآةٌ لرحلةِ الإنسانِ السودانيِّ في بحثهِ الدائمِ عن التوازنِ بين الإيمانِ والعقلِ، بين الروحِ والدولةِ.

إرسال التعليق

لقد فاتك