عمار نجم الدين يكتب : العدالة لا تحتاج إلى كراهية: تفكيك خطاب عبد المنعم الربيع في سياق تأسيس ( جزء ١-٢)
في المراحل التي يتقدّم فيها الغضب على الوعي، تُولد الأصوات التي تُحرّك الجماهير دون أن تهديها، تظهر أصوات تعبّر عن وجدان الغضب الشعبي قبل أن يتشكّل الوعي السياسي. وصوت عبد المنعم الربيع واحد من هذه الأصوات التي تملأ الفراغ العاطفي في لحظة الاحتقان، لكنه يفعل ذلك بلغة مشحونة تنفذ إلى القلوب قبل العقول، فتربك الاتجاهات وتشوّه صورة المقاومة أكثر مما تخدمها. هو لا يمثل تأسيس رسميًا، ولا ينطق باسمها، غير أن بثّ خطابه من داخل الأراضي المحرّرة يجعل تأثيره محسوبًا على المشروع، ويحمّل تأسيس تبعات ما يقول، وإن لم يكن ذلك عن قصد أو بتكليف
هناك فارق جوهري بين خطاب المقاومة وخطاب الكراهية. فالأول يسعى إلى تفكيك بنية الظلم وبناء وعيٍ جديد قائم على العدالة والمواطنة، أما الثاني فيستبدل المعركة مع البنية بمعركة مع البشر، فيتحوّل من مشروع تحرر إلى مشروع غضب. عبد المنعم الربيع، في اندفاعه، يخلط أحيانًا بين النقد البنيوي للمركز وبين الهجوم الثقافي والجهوي، فيعيد إنتاج نفس المفاهيم الإقصائية التي كانت جوهر الدولة القديمة، وإن بدا في الظاهر نقيضًا لها.
الخطورة في خطاب عبد المنعم الربيع ليست في نواياه، بل في مردوده على الوعي الجمعي. فكثيرون باتوا يقتدون بلغته الغاضبة باعتبارها “صوت الثورة”، دون تمييز بين الوعي والمزاج. وبهذا الشكل، تحوّل خطابه إلى عدوى رمزية تُغذّي الكراهية وتُضعف مشروع التحرر نفسه. الفلول والإعلام المعادي لا يحتاجون إلى اختلاق الأكاذيب؛ يكفيهم اقتطاع مقطعٍ واحد من خطابه ليقدّموه للعالم كدليل على أن “تأسيس” لا تختلف عن خصومها في خطاب الكراهية والعنصرية. وهكذا يصبح ما يُقال في لحظة انفعال، ذخيرة تُستخدم ضد مشروع العدالة الذي ناضل الناس من أجله.
الكلمات في زمن الحرب لا تبقى حبرًا ولا صوتًا في الفضاء؛ لها مردودها الواقعي عنفًا في الأرض. قد لا تحمل الكلمة بندقية، لكنها توجّه البندقية إلى حيث لا يجب أن تُوجَّه. حين يُستخدم الخطاب لشحن الغضب دون وعي، يتحول إلى تحريضٍ غير مباشر يخلق ضحايا جددًا، ويزرع كوارث إنسانية في الميدان. وهنا تكمن خطورة خطاب عبد المنعم الربيع، لأنه لا يطلق النار، لكنه يحدّد اللاوعي مسارها.
وحين يوثّق الربيع خطاب الكراهية بملايين المشاهدات، فإنه لا يضر خصومه بقدر ما يضر تأسيس. لأن تسجيل هذا الخطاب وتحليله لاحقًا في مراكز المراقبة أو الإعلام المعادي يُقدّم مادة جاهزة لتجريم الحركة سياسيًا. إن ما يفعله، من حيث لا يدري، خدمة استخباراتية مجانية تعادل في أثرها ما فعله “كيكل” في الجزيرة حين وثّق الانتهاكات ضد المدنيين. الفرق فقط أن كيكل وثّق جسد الضحية، والربيع يوثّق كرامتها وهي تُهان بالكلمة.
والمفارقة أن عبد المنعم الربيع ليس شابًا غِرًّا في السياسة، فقد قضى سنوات طويلة داخل تنظيم الحركة الإسلامية، وتشرّب لغتها وآلياتها في التعبئة والتحريض. ولذلك، حين يتحدث اليوم، تطلّ من خطابه تلك البصمة القديمة — طريقة تقسيم المجتمع إلى معسكرات أخلاقية، وتحويل الخصم إلى نقيضٍ وجودي لا إلى طرفٍ سياسي. وربما دون أن يدري، ما زال يستخدم الأدوات الذهنية ذاتها التي صاغها الإسلاميون لعقود، لكن بوجهٍ جديد وشعارٍ مختلف.
الدستور الانتقالي الذي تستند إليه تأسيس وضع الحدّ الفاصل بوضوح في المادة (30/4):
“تلتزم كافة وسائل الإعلام بمثل وأخلاقيات المهنة، وعدم إثارة الكراهية أو نشر خطاب التمييز والازدراء على أساس النوع أو الدين أو الإثنية أو الجهة أو الثقافة أو الدعوة للعنف…”
هذا النصّ ليس تقييدًا للحرية، بل حمايةٌ للمعنى الأخلاقي للحرية. فحرية التعبير تفقد مشروعيتها حين تتحول إلى وسيلة لتغذية الانقسام أو شرعنة الانتقام. وبهذا المعنى، فإن خطاب عبد المنعم الربيع، بقدر ما يعبّر عن غضبٍ حقيقي، إلا أنه يتجاوز هذا الحدّ إلى مساحةٍ تُضعف الأساس الأخلاقي الذي قامت عليه تأسيس: التعدد، والمواطنة، والعدالة المتساوية.
من المهم التأكيد أن ما يقوله عبد المنعم الربيع لا يعبّر عن الموقف الرسمي لتأسيس. فتأسيس مشروع دولة لا صوت أفراد، ورؤيتها تقوم على تفكيك البنى المولّدة للظلم لا إعادة إنتاجها بوجه آخر. لكن عندما يُبثّ خطابٌ متشنّج من داخل مناطقها، يصبح لزامًا على القيادة أن توضّح حدود الخطاب المسؤول، حتى لا يُختطف صوتها في الميديا وتُحمّل ما لم تقله.
المعركة الآن ليست على من يصرخ أعلى، بل على من يبني وعيًا أعمق. فالمركز القديم انهار ليس فقط بالسلاح، بل أيضًا بالكراهية التي غذّته. وإذا استخدم الهامش نفس اللغة، فإنه يُعيد إنتاج المركز الذي ثار عليه. إن المقاومة الحقيقية هي التي تفكك البنية لا الإنسان، وتواجه الجريمة لا الهوية، وتبحث عن العدل لا عن الانتقام.
عبد المنعم الربيع ليس خصمًا لتأسيس، لكنه مثال حيّ على كيف يمكن أن يتحوّل الغضب غير المنضبط إلى عبءٍ على الوعي والميدان. الحذر من خطابه لا يعني معاداته، بل حماية للمشروع الذي ننتمي إليه جميعًا من الانزلاق إلى فخّ التاريخ القديم — فخّ الكراهية باسم العدالة. فتأسيس لا تُبنى بالضجيج، بل بالعقل؛ ولا تنتصر بالصوت العالي، بل بالوعي الذي يعرف أن العدالة لا تحتاج إلى كراهية لتثبت نفسها، بل إلى بصيرةٍ تُفرّق بين الثورة والانفعال، وبين مقاومة الظلم وتقمّصه في ثوبٍ آخر.


إرسال التعليق