سارة السعيد : تحت الرماد |ذهب السودان: الوقود الحقيقي لحرب بلا نهاية - صوت الوحدة

سارة السعيد : تحت الرماد |ذهب السودان: الوقود الحقيقي لحرب بلا نهاية

وسط تصاعد الجهود الدولية لإيقاف الحرب السودانية، يغيب عن كثير من التحليلات سؤال جوهري: لماذا تفشل كل مسارات السلام؟ الإجابة، كما تتكشّف في كواليس المفاوضات الأخيرة في واشنطن، لا تتعلق بالخلافات السياسية أو انعدام الثقة فحسب، بل بشيء أعمق — شبكة مصالح اقتصادية تُمكّن الحرب، وتزدهر في ظلّها، وتُجهض كل مبادرة تنهيها.

في الاجتماعات المغلقة، أبلغ قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان الإدارة الأمريكية بما وصفه بـ”مشكلة أمنية خطيرة” تهدد عملية السلام. لكن خلف هذا التوصيف الأمني المضلّل، يكمن اعتراف غير مباشر: أن استمرار الحرب بات ضرورة “اقتصادية” لحماية الذهب — المورد الأساسي للجيش لتمويل هذه الحرب. فالصراع لم يعد يدور فقط حول الحكم، بل حول من يسيطر على المناجم، ومن يستفيد من التهريب، ومن يمتلك القدرة على شراء السلاح في ظل غياب الدولة.

فمنذ 2024، تحوّل الذهب السوداني إلى شريان تمويل رئيسي للجيش السوداني والمليشيات المسلحه المرتبطه به كما رصدت التقارير الاستخباراتية الغربية ارتفاع غير مفسر في صادرات الذهب المصري، تجاوز 190% مطلع 2025، دون زيادة داخلية في الإنتاج. أجمع الخبراء أن هذه القفزة مرتبطة بتهريب الذهب من السودان عبر الحدود الشمالية، حيث يُغسل ويُعاد تصديره من القاهرة إلى الأسواق العالمية.

الجدير بالذكر ان هذا التهريب لا يجري في الخفاء فقط، بل يتم بتواطؤ رسمي وشبه رسمي مع شخصيات نافذة في الجيش السوداني وحكومة بورتسودان الحاليةوتورطها في إدارة شبكات استخراج وتهريب الذهب. فوزير المالية جبريل إبراهيم، ووزير المعادن نور الدائم طه، والمستشار الاقتصادي عمر النمير، يديرون – وفق تقارير مسربة وتحقيقات صحفية – محاور شبكة التهريب: من السيطرة على مواقع التعدين، إلى إدارة التحويلات، مروراً بشركات واجهة في الخارج.

لكن أخطر ما في المشهد ليس فقط الفساد، بل تعقّد التحالفات التي تحميه. فبعد سقوط الفاشر، تشكّل تحالف غير معلن بين الإسلاميين وبعض قادة الحركات المسلحة، بدافع الخوف من فقدان النفوذ. الحركات التي خسرت مواقعها الميدانية وجدت نفسها معزولة، فتحالفت مع شبكات الإسلاميين التي توفر التمويل والدعم اللوجستي. في المقابل، وجدت التيارات الإسلاموية في تلك الحركات حماة جدداً لأنشطتها في مناطق التعدين. هذا التلاقي لم يكن سياسياً أو أيديولوجيّاً، بل اقتصادياً بحتاً.

وما يجعل هذا التحالف أكثر تعقيداً هو امتداده الإقليمي حيث تؤكد مصادر عديدة أن القاهرة تلعب دوراً غير مباشر في دعم هذه الشبكة عبر عناصرها داخل وزارة المعادن، مما يمنحها ورقة ضغط على مسار الحرب والسلام، ويُمكّنها من التحكم في جزء من تجارة الذهب المهرّب.

في ضوء هذه المعطيات، لم يكن غريباً أن يقدّم وفد الجيش في واشنطن عرضاً يتضمّن فتح مناجم الذهب والسواحل على البحر الأحمر أمام الشركات الأمريكية، مقابل تخلي واشنطن عن دعم حكومة السودان التأسيسي المدنية التي تتبنّاها قوات الدعم السريع، والتغاضي عن مطالب المحكمة الجنائية الدولية بشأن تسليم عناصر النظام السابق المطلوبين على خلفية جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية. غير أن واشنطن رفضت العرض، معتبرة إياه محاولة لمقايضة العدالة بالثروة، وتدخّلاً فجاً لتغيير مسار التسوية السياسيّة لمصلحة تحالف الفساد. وما إن رُفض العرض، حتى انسحب الجيش من مسودة السلام — للمرة السادسة منذ بدء الحرب.

ان ما يجري في السودان لم يعد نزاعاً سياسياً تقليدياً. بل تحوّل إلى حرب موارد تُدار من خارج مؤسسات الدولة، وتُغذّيها أطراف تستفيد من استمرار الانهيار. لا الجيش يملك السيطرة الكاملة، ولا الحركات المسلحة تلتزم بأجندة وطنية، ولا الخارج يضغط لإنهاء النزاع إلا بما يتماشى مع مصالحه في البحر الأحمر والمناطق الغنية بالمعادن.

كل هذه العوامل تجعل من أي اتفاق سلام هشّاً بطبيعته، ما لم يُفكَّك الاقتصاد السياسي الذي يجعل استمرار الحرب أكثر ربحاً من إيقافها. فطالما بقي الذهب تحت قبضة التحالفات غير الرسمية، وظل التهريب طريقاً أسهل من التصدير الرسمي، فإن مشهد الانهيار سيستمر، بصيغ مختلفة، وبتكلفة إنسانية واقتصادية متصاعدة.

الحرب في السودان، كما تتجلى اليوم، لم تعد صراعاً على مستقبل الدولة، بل سباقاً على مواردها في غيابها وما لم يُسترد القرار السياسي من يد اقتصاد الحرب، فإن كل دماء السودانيين ستُستنزف لتغطية أرباح حفنة من المهرّبين، لا لبناء وطن.

إرسال التعليق

لقد فاتك