كاربينو يكتب : ما بين اغتيال حسني مبارك وناظر المجانين أدبيات الدم في مشروع الحركة الإسلامية
ما بين محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ومحاولة اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم وصولاً إلى اغتيال ناظر قبيلة المجانين سليمان جابر جمعة سهل ، تتبدى أمامنا صورة قاتمة ولكنها بالغة الدلالة عن طبيعة العنف السياسي في السودان وعن الأدبيات التي تأسست عليها عقلية الحركة الإسلامية منذ صعودها إلى المشهد ، فالاغتيال عندهم نهج غير معزول أو فعلًا طارئً إنما هو أداة راسخة في مشروع الهيمنة وإعادة هندسة توازنات القوى وسلاح يُستخدم بقصد لترهيب الخصوم وإعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية بما يخدم مركز القرار المسيطر ، هذه السياسة التي تمتد جذورها لربع قرن او يزيد تعيد إنتاج نفسها اليوم في قلب الريف السوداني ، حيث تتقاطع المصالح السياسية مع البُنى التقليدية التي تمثلها الزعامات الأهلية ذات الشرعية التاريخية.
إن قراءة متأنية لمسار الحركة الإسلامية منذ نشأتها تكشف أنها لم تتعامل مع العنف كحالة استثنائية بل كأداة سياسية مركزية في مشروعها للتمكين ، فالاغتيال بالنسبة لها ليس فعلًا عبثياً بل خطوة محسوبة تُراد بها إعادة تشكيل ميزان القوى ، في هذه الرؤية يُنظر إلى الخصم لا باعتباره كائناً سياسياً يمكن التعايش معه ، بل عقبة ينبغي إزاحتها مادياً وهذا ما يجعل ثقافة العنف جزءً مكوناً في البنية الذهنية والتنظيمية للحركة لا مجرد رد فعل على تهديد خارجي.
قبيلة المجانين التي تنحدر في نسبها من جهينة الكبرى هي حاضنة اجتماعية مترابطة ومتجذرة جغرافياً وثقافياً بين شمال كردفان وشمال شرق دارفور وحتى تخوم أم درمان هذا الامتداد جعلها تاريخياً صمام أمان يربط بين البوادي ومسارات الرُحل ويؤمن طرق التجارة وحركة الرعاة ، ومن رحم هذه القبيلة برزت أسرة جمعة سهل وهي بيت القيادة الذي حمل أمانة الإدارة الأهلية لعقود طويلة ولأن الزعامة في المجتمعات الرعوية لم تكن وجاهة فهي مسؤولية وشرعية مستمدة من أعراف عميقة ، فقد كانت مواقف الناظر الراحل سليمان جابر جمعة سهل ذات وزن خاص وحين تصاعدت حمى الاستقطاب المسلح في السودان نأى الرجل بنفسه وبقومه عن الاصطفاف الأعمى ، ووقف في موقع الحياد الوطني المسؤول مدركاً أن تحويل القبائل إلى وقود لصراع سياسي مسلح هو بداية النهاية للنسيج الاجتماعي.
لقد شكلت الزعامات الأهلية في السودان عبر التاريخ أحد أعمدة الاستقرار الاجتماعي والسياسي ، إذ كانت بمثابة صمام أمان بين الدولة المركزية والمجتمع المحلي هذه الزعامات لم تكن رموز تقليدية بل مؤسسات غير رسمية لإدارة التوازنات ، وحل النزاعات ، وبناء شبكات التعايش السلمي ، ولهذا السبب فإن استهدافها لا يعني فقط ضرب أفراد بعينهم بل ضرب آلية كاملة لحفظ السلم الأهلي ، فكل ناظر يُغتال هو في الواقع نقطة اتزان تُكسر ، وتُفتح بعدها شهية التفكك والاقتتال.
من هذا الموقع بالذات أصبح الناظر هدفاً فالذين يتبنون مشروع عسكرة المجتمع لا يحتملون وجود قيادة أهلية عاقلة لأن مثل هذه القيادة تحرمهم من رصيدهم الأكبر هو الجماهير ، فالحركة الإسلامية التي بنت مشروعها على الاستقطاب والاحتواء لطالما وجدت في الزعامات المستقلة حجر عثرة أمام مخططاتها ، وحين لا تنجح في شراء الولاء أو تركيعه بالترهيب يكون الاغتيال هو الأداة الأخيرة ، وما جرى في المزروب تلك البقعة الهادئة من بادية المجانين ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التصفيات السياسية التي عرفها السودان خلال العقود الثلاثة الماضية ، حيث قُتل قادة عسكريون وسياسيون ودينيون وحتى منظرو الحركة نفسها ، مثل الزبير محمد صالح وإبراهيم شمس الدين ومجذوب الخليفة وحسن الترابي ، ولم يكن الخارج بمنأى عن هذا النهج فقد شهد العالم في منتصف التسعينات محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا وهي العملية التي هزت الإقليم وأدخلت السودان في عزلة عميقة ، وأيضاً كانت حادثة اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم التي تركت ندوباً غائرة في الذاكرة الدبلوماسية.
لم يكن العنف السياسي في السودان يوماً ظاهرة محلية منعزلة انه انعكاس مباشر لطبيعة العلاقة المختلة بين المركز والهامش ، فالمركز السياسي الذي تسكنه النخبة الحاكمة لطالما سعى إلى إخضاع الأقاليم عبر أدوات غير رسمية منها شراء الولاءات ، عسكرة المجتمعات واستهداف القيادات غير الموالية ، هذه العلاقة غير المتكافئة جعلت الريف ساحة مفتوحة للتصفية والترهيب ، في حين بقي المركز بمنأى عن آثار الدم محافظاً على صورته السياسية بينما تُدار معاركه في الأطراف.
هذه السلسلة من الاغتيالات ومحاولات الاغتيال ليست وقائع متناثرة فهي تشكل ما يشبه العقيدة العملية في إدارة الصراع لدى الحركة الإسلامية ومن يدور في فلكها ، فكل من يشكل نقطة توازن مستقلة أو مركز نفوذ اجتماعي غير قابل للتطويع يصبح في لحظة ما هدفاً مشروعاً إنها طريقة محكمة لإعادة هندسة السلطة من القاعدة الاجتماعية إلى القمة السياسية ، تبدأ من كسر عمود الحياد الأهلي ، مروراً بإثارة الفتن بين المكونات ، وانتهاءً بخلق مسرح منقسم يسهل السيطرة عليه ، وقد كان الناظر سهل مدركاً تماماً لهذا الفخ فواجهه بصبر الرجال وحكمة الزعماء رافضاً أن يبيع موقعه أو يزج بأبناء قبيلته في صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل ، لكنه كان يعلم أيضاً أن هذا الموقف ليس مجانياً وأنه سيدفع ثمنه غالياً.
ما يزيد فداحة هذا الاغتيال أنه حدث في لحظة سياسية مفصلية يعيش فيها السودان واحدة من أعقد أزماته التاريخية حيث تتقاطع خطوط النار بين مشاريع سلطة تتغذى على الانقسام وبين مجتمعات محلية تحاول جاهدة أن تبقى خارج دائرة الاستقطاب ، اغتيال زعيم محلي من هذا الوزن لا يعتبر إزاحة لشخص بل تفكيك لبنية توازن محلي استقرت لعقود وفتح الباب أمام قوى طارئة لتعبئة الفراغ وإعادة صياغة الولاءات ، فحين يختفي الناظر لا يختفي رجل واحد بل يختفي جسر يربط بين العشيرة والدولة ، بين الاستقرار والتفكك ، بين الصوت الحكيم وهدير البندقية.
ولا تمر الاغتيالات في المجتمعات المحلية مرور الكرام بل تترك ندوباً غائرة في الذاكرة الجمعية ، فحين يُغتال زعيم قبلي لا يُقتل فقط بل يُغتال معه شعور الأمان وتتصدع ثقة الناس في الدولة ويُفتح الباب أمام سرديات جديدة تُعيد تعريف من هو العدو ومن هو الحليف ،هذا الشرخ النفسي والاجتماعي أخطر من الرصاصة ذاتها لأنه يخلق بيئة خصبة للكراهية ويغذي دوامة لا تنتهي من الانتقام المتبادل.
وإذا تأملنا السياق الأشمل فإن هذا النمط من العنف السياسي يكشف عن نزعة عميقة للسيطرة عبر الرعب وهو ما يجعل أي عملية انتقال سياسي أو بناء وطني عملية معقدة ومهددة بالانفجار في أي لحظة ، فحين تتحول الاغتيالات إلى وسيلة لإدارة المشهد فإن الدولة تتآكل من الداخل والمجتمع يفقد تماسكه وتصبح القبائل عرضة للتمزيق والتجييش ، وهذا ما حدث ويحدث في مناطق عديدة من السودان اليوم حيث يُستهدف الحكماء وتُستدرج القبائل إلى صراعات لا تعنيها سوى أنها وقودها.
اغتيال الناظر سليمان جابر جمعة سهل إذًا لا يجب أن يكون جريمة سياسية عادية ؛ إنه مرآة مكبرة لطبيعة المنهج الذي حكم المشهد السوداني لفترة من الزمان ، وإذا لم تُكسر هذه الدائرة الجهنمية او الشريرة وإذا لم يُحمى الحياد الأهلي وتُصن الزعامات المحلية من الابتزاز والتصفية ، فإن ما ينتظر السودان ليس سوى مزيد من الانحدار نحو الفوضى الشاملة ، إن استمرار نهج الاغتيال السياسي يعني ببساطة تثبيت منطق العنف كبديل للسياسة ، وهذا يقود إلى انهيار أي أفق لبناء دولة قانون أو عقد اجتماعي جديد ، فحين تصبح الرصاصة هي الحكم تفقد المؤسسات شرعيتها ، وتتحول البلاد إلى فسيفساء من جماعات مسلحة ومراكز نفوذ متناحرة ، ولا سبيل للخروج من هذه الدائرة سوى بكسر منطق الاغتيال وتجريم العنف السياسي ، وإعادة الاعتبار للزعامات الأهلية كأطراف شريكة في الاستقرار لا أهدافاً مشروعة للتصفية.
فالسلطة التي تُبنى على الاغتيالات لا تورث استقراراً بل حقولاً من الرماد وفي الرماد لا تنبت دولة.


إرسال التعليق