المودودي الدود يكتب : الجينات الاستعمارية كيف لا تزال اتفاقيات الحدود تحكم مصير السودان؟ - صوت الوحدة

المودودي الدود يكتب : الجينات الاستعمارية كيف لا تزال اتفاقيات الحدود تحكم مصير السودان؟

في عام 1899 جلس اللورد كتشنر والسير ريجنالد وينجت في القاهرة يرسمان حدود السودان الحديث. لم يكن أيٌّ منهما قد زار معظم المناطق التي كانا يقسمانها لكنهما رسما خطوطًا مستقيمة قطعت أوصال القبائل والمناطق المتجانسة. واليوم وبعد أكثر من قرن ما زلنا نعيش تحت ظل تلك الخطوط. في السودان نحن لا نرث الأرض فقط بل نرث أيضًا التقسيمات المصطنعة التي زرعها الاستعمار في الجغرافيا والعقول معًا.

سايكس بيكو السودانية اتفاقية الحكم الثنائي 1899

بينما اشتهرت سايكس بيكو في المشرق العربي كان للسودان نسخته الخاصة. اتفاقية الحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر (1899) لم تكن مجرد ترتيب إداري بل كانت هندسة سياسية واجتماعية متعمدة أعادت تعريف هوية البلاد وموقعها في العالم. فقد صاغت الاتفاقية مفهومًا إداريًا يُقسّم الناس قبل الأرض ويحوّل الجغرافيا إلى أداة ضبط اجتماعي واقتصادي. تلك الاتفاقية لم تقسّم التراب الوطني فحسب بل أعادت رسم خريطة الانتماء والتراتبية

تقسيم الهوية بين عربي و أفريقي
تفكيك النسيج الاجتماعي بين الشمال والجنوب والشرق والغرب وكانت النتيجة مأساة بشرية تجسدت في قبيلة المسيرية التي تقطعت أوصالها بين السودان وتشاد فصار أبناؤها غرباء في ديارهم

خلق تراتبية عرقية ودينية ما زالت تترك أثرها في الوعي الجمعي والسياسات حتى اليوم. يصف الكاتب المرتد عبد الله علي إبراهيم هذه الفترة بأنها : ولادة قيصرية للدولة السودانية خرجت من رحم الاستعمار بجينات مشوّهة

الاقتصاد كأداة للسيطرة

لم يكن التقسيم الاستعماري مجرد خطوطٍ على الخرائط بل هندسة اقتصادية دقيقة استُخدمت لإعادة ترتيب الإنتاج والموارد بما يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية. مشروع الجزيرة نموذج الاستغلال المنظّم صُمِّم المشروع في عشرينيات القرن الماضي ليخدم مصانع النسيج في مانشستر.

حُوّل المزارع السوداني إلى عامل بلا ملكية ينتج القطن للتصدير ويشتري حاجاته من الخارج. وهكذا نشأ اقتصاد مشوّه ينتج للمستعمر ما لا يحتاجه المحلي ويستورد من الخارج ما يمكن إنتاجه محليًا.

تقسيم مناطق الإنتاج

لقد عمل الاستعمار على إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية في السودان وفقًا لاحتياجاته ومصالحه الخاصة فتم تقسيم البلاد إلى مناطق إنتاج تؤدي وظائف محددة داخل منظومة الاقتصاد الإمبراطوري.

في الوسط خُصصت الزراعة وخاصة زراعة القطن لخدمة الصادرات البريطانية وتغذية صناعاتها النسيجية. أما الجهة الغربية فقد أُبقيت كمصدر للماشية والثروة الحيوانية دون أي جهد لتطوير الصناعات المرتبطة بها مما جعلها تابعة اقتصاديًا دون استقلال إنتاجي.

وفي الجنوب صُممت السياسات لتجعل منه منطقة عازلة ومعزولة تنمويًا، تُستخدم كحاجز استراتيجي أكثر من كونها جزءًا فاعلًا في الاقتصاد الوطني. بينما كان الشرق بمناجم جبيت وميناء بورتسودان تحت السيطرة المباشرة للإدارة البريطانية، ليكون الممر الأساسي لتصدير الموارد الأولية إلى الخارج.
بهذا الشكل أصبحت الخريطة الاقتصادية مرآة للخريطة السياسية تُكرّس التبعية وتعيد إنتاج التخلف.
ولمّا نالت البلاد استقلالها ورثت الدولة الحديثة هذه البنية المختلّة دون أن تُحدث قطيعة حقيقية مع منطقها فاستمرّ تمركز التنمية في مناطق الوسط وبقيت الأقاليم الأخرى كجنوب السودان وكردفان ودارفور على هامش التخطيط والاهتمام الرسمي.
وهكذا استمرّت سياسات التهميش البنيوي التي أسسها الاستعمار لتتحول من أداة استعمارية إلى ممارسة داخلية تُغذّي الصراع وتُعمّق الفوارق الإقليمية وتُبقي على علاقة غير متوازنة بين المركز والأطراف.

لم يكتف الاستعمار برسم حدود الأرض بل رسم حدود الوعي أيضًا. كما يجسد الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال مأزق الهوية عبر شخصية مصطفى سعيد الذي يعود من إنجلترا ليجد نفسه غريبًا في وطنه

النخبة الوطنية

حين جاء وقت الاستقلال لم تُولد دولة جديدة بل ورثت النخبة في الخرطوم الدولة الاستعمارية بأجهزتها وآلياتها. بدلاً من تفكيك تلك البنية أعادت تشغيلها لمصلحتها. وكما كتب فرانز فانون في معذبو الأرض البرجوازية الوطنية التي تخلف المستعمر ستعيد إنتاج آلياته ولكن بلكنة محلية.

من أرشيف عام 1917 كتب ريجنالد وينجت نفسه لقد صممنا السودان ككيان إداري موحد لكننا حافظنا على التقسيمات القبلية كأداة للسيطرة. وهكذا لم يرحل الاستعمار فعلاً بل أعاد إنتاج نفسه داخل النخبة الجديدة تحت راية الوطنية.

الاستعمار الداخلي

وهنا جوهر الأزمة الاستعمار الداخلي الذي تمارسه النخب المركزية على شعوبها استعمار يتحدث بلغتنا يرفع علمنا ويعرف نقاط ضعفنا. إنه أخطر من الاستعمار الخارجي لأنه يكتسب شرعية العاطفة الوطنية وهو يواصل إنتاج منطق الإقصاء نفسه.

بعد أكثر من قرن على تلك الاتفاقيات الاستعمارية يقف السودان اليوم عند مفترق طريقٍ تاريخي هل الشعب السوداني قادر على تجاوز إرث التقسيم والانقسام ويثبت بان الجغرافيا ليست قدرًا أبديًا بل اختيارًا سياسيًا جديدًا.

الخيارات أمامنا واضحة إما أن نظل سجناء جغرافيا الاستعمار. أو نتحرر لبناء جغرافيا الإرادة الوطنية. التحرر الحقيقي يبدأ بالاعتراف بأن المشكلة ليست في الحدود فقط، بل في عقلية الحكم التي ورثناها.
إنه تحول من دولة النخب إلى دولة المواطنة ومن سياسة التهميش والإقصاء إلى فلسفة العدالة الجغرافية فمعرفة الجذر هي أولى خطوات الشفاء. سودان يعترف بتنوعه كقوة ويحترم تعدديته كثراء ويبني وحدته على المساواة والعدالة. إن تحرير الجغرافيا ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة وجودية لبناء وطن نصنع خرائطه بأيدينا لا بأقلام المستعمر.

التحرر من جغرافيا الاستعمار ليس شطباً للحدود بل هو إعادة تعريف للعلاقة بين الأرض والإنسان بين الجغرافيا والهوية. إنه انتقال من حدود القهر إلى فضاءات الأمل ومن جغرافيا التقسيم إلى خريطة الوحدة في التنوع. فالأرض التي نرسمها بأنفسنا بيدينا وعقولنا وقلوبنا هي الوطن الذي نستحقه وطنٌ نصنعه لا نرثه نبنيه لا نسكنه

إرسال التعليق

لقد فاتك