عمار سعيد يكتب : “مناوي بين كماشة الفلول وخصوم الداخل: خطة بورتسودان لتفريخ البديل”
بورتسودان تفكك النفوذ: خطة استخباراتية لإضعاف مناوي وتجربة كرنوي كحقل تجارب
تتصاعد المؤشرات بأن سلطة بورتسودان، ومن خلفها الأجهزة الاستخباراتية المرتبطة بالجيش، لم تكتفِ بسياسة التخاصم أو المناورة السياسية، بل شرعت فعليًا في خطة منهجية تهدف إلى تقليص نفوذ رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي عبر تفكيك بنيته القيادية وإعادة تشكيل موازين الولاء داخل الحركات الدارفورية. وقد برزت مدينة كرنوي أخيراً كمسرح لتجريب هذه الخطة، إذ شهدت مواجهات مسلحة بين مجموعات محلية متفاوتة الولاءات تمثل نموذجاً مصغراً لإعادة توزيع القوة في الإقليم.
في هذا الإطار، أخذت الاستخبارات في بورتسودان تذكّر بسياسة “تفريخ” الحركات المسلحة التي ظلت تجيدها طوال فترة حكم الحركة الإسلامية: إنتاج أوجه موالية جديدة، واستثمار الانقسامات القبلية لتحويل المشهد إلى فسيفساء من التبعيّات يسهل ضبطها سياسياً وعسكرياً. هذا المسار ليس مجرّد تكتيك ميداني، بل استراتيجية سياسية تهدف إلى خلق بدائل قابلة للضبط في حال ضعف أو تراجع قيادات قائمة، وهو المصير الذي يبدو أنّه يتهيأ لمناوي حالياً.
كرنوي.. ساحة اختبار لتفريخ البدائل
المعارك المستعرة في كرنوي تجسّد عملية تحويل النزاع إلى ساحة لإضعاف نفوذ معين، وليس مجرد صراع قبلي محلي. فظهور مجموعات تعلن ولاءها لبخيت دبجو مقابل مجموعات مرتبطة بمناوي، وحشود مسلّحة ومقاطع فيديو توثق تحركات عسكرية وإنزال جوي في تلك المناطق يحمل دلالات عديدة تشير إلى تدخلات محددة تستهدف تفكيك شبكة الولاءات التي بنَتْها مناوي على مدى سنوات. كما توحي بعض الأدلة بوجود دعم لوجستي محدود لتشكيلات محلية تُعتبر أكثر مرونة وقابلية للانخراط في تسويات تُهيئها السلطة.
من إخفاق ميداني إلى عزلة سياسية
تراجع قدرة مناوي على تحقيق مكاسب ميدانية ملموسة انعكس سريعاً على موقفه السياسي؛ فحالة الإرهاق الميداني والتراجع في التعبئة وفشل جميع المخططات لفك حصار الفاشر واستسلام المئات من قواته في الفاشر جعلته أقل قدرة على حماية مكانته داخل التحالفات المحلية، وأتاح لدوائر القرار في بورتسودان فرصة التفكير بخيارات بديلة. في هذا السياق، تُوظَّف الخلافات القبلية والأحقاد القديمة كورقة ضغط تُستخدم لتفويض قيادات محلية أو إدخال أوجه جديدة تُسهل السيطرة عليها لاحقاً.
أخذت الاستخبارات في بورتسودان تنفيذ ما ظلت تجيده طوال فترة حكمها وهو تفريخ الحركات المسلحة وإنتاج موالين جدد، وهذا المصير ينتظر مناوي حالياً.
لماذا تختار السلطة هذا الخيار؟
السلطة في بورتسودان ترى في الوضع الراهن احتمالين اثنين: إما استيعاب قيادات دارفورية ضمن أطر مؤسسية قابلة للرقابة، أو ترك الانقسامات تُبقي الإقليم موزعاً ومفتوحاً على تدخلات مركزية تُحافِظ على مصالح النظام. تفكيك بنية مناوي عبر استقطاب أو دعم بدائل محلية يمثل طريقة فعّالة لتحقيق الهدفين معًا: اعتراض طريق أي قيادة قد تتحول إلى تهديد، وفي الوقت ذاته إبقاء السيطرة مرنة وغير مركزية.
دور حركات الحياد : موقف قوات الطاهر حجر
في ظل هذا الظرف، على حركة الطاهر حجر أن تسجّل حضورها كقوة وطنية ظلت باقية على الحياد لاستقبال المنشقين من الطرفين ولحفظ دماء أبناء المكون والأبرياء والشرفاء الذين لزموا الصمت طوال الفترة الماضية خوفاً من بطش مناوي. إنّ دخول قوى وسطية مسؤولة وغير متطرفة في المشهد قد يُوفر مساحة لاحتواء النزاعات المحلية ومنع استغلالها كأداة لإضعاف جهة بعينها على حساب استقرار الإقليم وأمن المدنيين.
مخاطر ومآلات
الاستراتيجية الاستخباراتية القائمة على استغلال الانقسامات تخلق مكاسب قصيرة المدى للسلطة، لكنّها تترك آثارًا سلبية طويلة الأمد: إضعاف بناء الثقة بين المكوّنات، تكريس منطق الانتقام والولاء المشروط، وتعميق حالة الفوضى المنظمة التي تصعب لاحقًا أي عملية سلام شاملة ومستقرة.
إذا نجحت عملية “تفريخ” الموالين الآن فقد تؤدي إلى تقليص نفوذ مناوي زمنياً، لكنها في المقابل قد تكرّس ديناميكية عنف متقطّعًا ومدمّراً في المستقبل، إذ إن ولاءات منتَجَة بالقوة أو الحافز الخارجي سرعان ما تنهار عند تقلب مصالح ميدانية أو سياسية.
تؤكد الأدلة الميدانية في كرنوي، إضافة إلى نمط عمل الاستخبارات في بورتسودان، وجود مسعى حقيقي لإضعاف مناوي وإعادة رسم خريطة النفوذ الدارفوري عبر تفريخ بدائل وأشخاص موالين. ومع ذلك، يظل السؤال الأخطر: هل ستقود هذه العملية إلى استقرار مُشَرط أم إلى حلقة من العنف والتمزق المستمرين؟ الأيام القادمة، كما تقول الواقع السياسي السوداني الآن، حبلى بالكثير، وقد تكشف فيما لو أدّت هذه السياسات إلى ولادة توازن جديد أم إلى تفاقم أزمة تلتهم المدنيين أولاً.


إرسال التعليق