عزام عبدالله : نقد بيان الحزب الشيوعي السوداني من منظور ماركسي. - صوت الوحدة

عزام عبدالله : نقد بيان الحزب الشيوعي السوداني من منظور ماركسي.

في 21 سبتمبر 2025، أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني بيانًا علق فيه على مبادرة الرباعية الدولية لوقف الحرب في السودان. ورغم ترحيب الحزب المبدئي بأي جهد لوقف الحرب، إلا أن البيان يكشف عن أزمة فكرية عميقة وتصلب موقفي، يعكس عجزًا عن مسايرة التحولات الجذرية التي يشهدها السودان. من خلال قراءة نقدية تستند إلى المنهج الماركسي نفسه الذي يتبناه الحزب، يتضح أن البيان يقع في فخ الشعاراتية ويغيب عنه التحليل المادي الجدلي للواقع المتغير، مما يجعله وثيقة تنتمي إلى الماضي أكثر من انتمائها إلى الحاضر.

حيث يصر البيان على لازمة “العودة إلى مسار ديسمبر” كحل وحيد للأزمة، متجاهلاً التحولات العميقة التي غيرت المشهد السوداني جذريًا منذ أبريل 2023. هذا الموقف يتناقض تناقضًا صارخًا مع الأساس الجدلي للماركسية، الذي يفترض تحليل “الملموس في وضع ملموس”، كما أشار لينين . فالحرب دمرت البنى التحتية وأعادت تشكيل التحالفات السياسية والموازين الاجتماعية بشكل لا يمكن معه التعامل مع الواقع بمنطق الثوابت. هذا الجمود يعيد إلى الأذهان مقولة الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي عن “الأزمة العضوية” التي تعيشها القوى القديمة عندما تعجز عن استيعاب التحولات الجذرية، فتبقى سجينة شعاراتها بينما يولد واقع جديد بكتلة تاريخية مختلفة. ومن التناقضات التي ضربت الحزب هي بعض الآراء التي دونها أعضاء في اللجنة المركزية للحزب ترجع الحرب الدائرة الآن الي جذور إثنية مناطقية عبر إستدعاء احداث تاريخة، وهو مايشير للي فقدان البوصلة داخل أعلي هرم الحزب.

إضافة الي ذلك يسقط الحزب في فخ النظرية المؤامراتية التبسيطية في تحليله لدور الرباعية الدولية، حيث يرى أن هذه القوى “تقف وراء هذه الحرب وتمول طرفيها” حرصًا على مصالحها . بينما يغيب التحليل الطبقي والاقتصادي الأكثر عينية للمصالح المتشابكة والمتناقضة أحيانًا لهذه القوى. هذا التبسيط يتجاهل التناقضات الحادة بين أعضاء الرباعية أنفسهم، والتي تشكل ثغرات يمكن للدبلوماسية الذكية استغلالها . في هذا الصدد، كان كارل ماركس ليذكرنا بأن “الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم هو تغييره”، والتغيير يتطلب فهم التناقضات الفعلية بدلاً من الاختباء وراء شماعة المؤامرة.

كما يظهر البيان انحيازًا طبقياً واضحاً يتجاهل مصالح قطاعات واسعة من البرجوازية الوطنية والتجار وأصحاب الأعمال في استعادة الاستقرار وإنهاء الحرب. التركيز الحصري على “الجماهير” و”لجان المقاومة” كفاعلين وحيدين يعكس هيمنة الرؤية البرجوازية الصغيرة على خطاب الحزب. هذه الشريحة الاجتماعية – المكونة أساسًا من موظفين ومهنيين وطلاب – تميل في الأزمات إلى لغة أخلاقية شعارية تعوض عجزها عن امتلاك أدوات مادية لإعادة بناء السلطة. ومع تطاول الصراع ستلجأ بعض شرائح الشعب ومنها البرجوازية الوطنية الي التحالف مع سلطات الأمر الواقع لاستعادة الدولة وتحقيق مصالحها المرتبطة بإستعادة مؤسسات الدولة بعيدا عن أي إعتبارات أخري.
وهذا يتناقض مع التحليل الماركسي العلمي الذي يفترض فهم المصالح الطبقية المختلفة وتحالفاتها المحتملة، حيث كانت البروليتاريا بحاجة إلى حلفاء في مراحل معينة من النضال.

علي صعيد آخر يكشف البيان عن تناقض صارخ في موقف الحزب من القوى الفاعلة على الأرض. فمن ناحية يهاجم الإسلاميين ويتهمهم بـ”فتح أبواب البلاد لدخول المتطرفين”، لكنه من ناحية أخرى يطالب بإرجاع دار الحزب في أم درمان، وهي مطالب تضع الحزب في حالة من التماهي غير المعلن مع خطابات القوى التقليدية. هذا الموقف الانتهازي يتناقض مع مبادئ الماركسية الثورية التي نبه منها تروتسكي إلى أن “الثوري إذا أهمل الواقع الماثل صار داعية أجوف” . فالمطالبة باستعادة المقر في وقت تدمر فيه البلاد ويعاني الملايين من النزوح والجوع يعكس أولويات مشوهة تنتمي إلى ما قبل الحرب. قد يقول قائل أن الحزب طالب من سلطة الأمر الواقع او قيادة الجيش كمؤسسة وطنية، وهو لعمري التناقض بعينه. حيث يعلم الجميع الارتباط الواضح بين سلطة الأمر الواقع و الإسلاميين. وعلي النقيض من الموقف المتماهي مع الإسلاميين و سلطة بورتسودان يتمترس الحزب حول موقف صفري من الدعم السريع متجاهلا كل التغيرات التي افرزتها الحرب ومصالح الملايين من السودانيين التي أصبحت مرتبطة بوجود الدعم السريع لحفظ مصالحها. حيث أنه من غير الموضوعي المطالبة بحل الدعم السريع من غير توفير ضمانات كافية و مقبولة لكل المكونات المجتمعية التي إنحازت للدعم السريع في الحرب وتطمينها من غدر الدولة المنحازة في حال حل الدعم السريع.

ما يثير الإستغراب هو إصرار الحزب على مطالب المحاسبة الشاملة لجميع جرائم الحرب التي ارتكبها طرفا الصراع، بما في ذلك “جرائم فض الاعتصام وجرائم الحرب التي أرتكبها الطرفان” . هذه المطالب، وإن كانت عادلة من الناحية الأخلاقية، تفتقر إلى الواقعية السياسية والرؤية المرحلية. فالمادية التاريخية تفترض فهم المرحلية في التحولات الكبرى، حيث لا يمكن تحقيق جميع الأهداف مرة واحدة. في هذا السياق، كان فريدريك إنجلز ليذكرنا بأن “الدولة لا تُلغى وإنما تزول بعيدًا” ، أي أن التحولات الكبرى تحتاج إلى عملية تاريخية وليس قرارات فورية. المطالبة بحل كل الملفات دفعة واحدة تؤدي إلى شلل سياسي يستفيد منه فقط أصحاب مصلحة استمرار الحرب.

خاتمة:

بيان الحزب الشيوعي السوداني يمثل حالة من الجمود الفكري أمام تحولات تاريخية كبرى. الأزمة التي يكشفها البيان ليست أزمة موقف من مبادرة دولية عابرة، بل هي أزمة عجز عن تطوير الأدوات التحليلية لقراءة واقع متغير، والتمسك بشعارات الماضي في مواجهة صيرورة لم يعد الحزب يملك مفاتيحها. ما يحتاجه السودان اليوم هو رؤية سياسية مرنة تستوعب تعقيدات المرحلة، وتتعامل ببراغماتية مع المبادرات الدولية دون تنازل عن المبادئ الأساسية، وتعمل على جمع القوى المدنية بدلاً من تفريقها. للأسف، يبدو أن الحزب الشيوعي السوداني، رغم تاريخه النضالي الطويل، لم يستطع بعد تجاوز أزمته العضوية لتقديم إضافة نوعية للحل في هذه اللحظة المصيرية من تاريخ السودان، مما يستدعي مراجعة شاملة لخطابه واستراتيجيته بما يتلاءم مع التحولات التاريخية التي يشهدها السودان والعالم.

إرسال التعليق

لقد فاتك