بين سرديات الدولة السياسية و المجتمع : أزمة المفاهيم و عنف الدولة
لا يمكن تناول علم الاجتماع السياسي بمعزل عن فهم الظواهر الاجتماعية السياسية التي تنتجها المجتمعات في لحظات التحول والانقسام. فكل مجتمع سياسي ينمو داخل قالب قيمي وسلوكي معيّن، تتشكّل فيه الهويات والمواقف، وتُعاد فيه صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع وفق شروط لحظية وتاريخية.
وإن الطابع السياسي لا يُختزل في مؤسسات الحكم أو أدوات السيطرة، بل يحمل في جوهره مفاهيم وتوقعات مستقبلية، تنبع من محاولات بناء وتأهيل الإنسان، وتشكيل وعيه من جديد بما يتناسب مع منطق الدولة الحديثة. وهذا المشروع لا ينجح إلا بإعادة إنتاج السلوك الاجتماعي، وتركيبه على نسق يتجاوز الانتماء القبلي أو الإثني، نحو مواطنة متساوية.
ومشكلة النخب السياسية في السياق السوداني تكمن في غياب هذا التمييز الضروري بين المجتمع والدولة. فكثيرون ممّن يتصدّرون المشهد السياسي أو الفكري يخلطون بين بطش الدولة وبطش الاستعمار، ويتعاملون مع التاريخ كأداة للمحاكمة السياسية لا للفهم.
وهنا تُولَد الضغينة، وتُغذّى الهويات الإثنية على حساب الهوية الوطنية، ما يؤدي إلى تكتلات لا تساعد في حل الأزمات، بل تعمّقها.
ومن هنا، تظهر خطورة بعض المقارنات المتسرعة، كتشبيه الأزمة السودانية بتجربة المجتمعات اليهودية، أو استعارة خطاب مثل “يهود الشتات” لوصف مجموعات إثنية بعينها.
خذ مثلًا مقال الدرديري محمد أحمد الشهير بـ”عُربان الشتات”، حيث وصف مجموعات إثنية بأنها لا تملك أرضًا، في إسقاط واضح ومريب على ما يُعرف في الأدبيات الغربية بـ”يهود الشتات”. وهذا التوصيف مستوحى من أعمال الكاتبة الأمريكية ذات الأصول اليهودية جوديث بتلر، حين تناولت موضوع التهجير، ونزع الملكية، والاستعمار الكولونيالي في فلسطين. إلا أن استدعاء هذه المقارنات خارج سياقها لا يقدّم فهماً، بل يكرّس الارتباك.
لكن إسقاط هذه المفاهيم على الواقع السوداني يخلق حالة من الاضطراب الفكري، ويبرّر الإقصاء تحت غطاء المفاهيم الغربية، دون فهم سياقها.
ويزيد الأمر التباسًا حين يستحضر عديمو الأخلاق، مثل الصادق الرزيقي، سرديات تاريخية تبرّر العنف أو تُجمّل مشروع الدولة باعتباره مقارنة، دون مراجعة الجذور الاجتماعية التي نشأ منها.
وفي مقارنة لجوهر الانحدار الأخلاقي والثقافي والقيمي، نرى كيف يستحضر الصادق الرزيقي التاريخ ليُصوّر “الجهادية” بـ”الجاهزية”، ويدور كتلة “المتمة” في مقارنة غير واقعية، محاولًا صياغة سردية دولة قائمة، في الأصل، على نقيض المجتمعات التي خرجت منها.
المفارقة أن هؤلاء، رغم انتمائهم للمجتمعات التي يهاجمونها، اعتادوا تشويه صورها في مقابل بيع ذممهم لمن يمنحهم منصة أو سلطة. وهم في الغالب لا يُفرّقون بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، بل يُساوون بينهما حين تقتضي المصلحة.
هؤلاء لا يُقدّمون سردية حقيقية بديلة، بل شذرات قائمة على ثنائية “الأنا والآخر”. فهم عاجزون عن تقديم سردية بديلة سوى تلك الأخلاقية الزائفة، التي تُقدِّم “عبء الجلابي” على أنه الحقيقة المطلقة.
لأنهم عالقون داخل عقلية الثنائيات: شمالي مقابل غربي، عربي مقابل إفريقي، دولة مقابل مجتمع. ولذا نراهم يُعيدون تدوير روايات الأمن، من دولة الجنيد إلى دولة الزغاوة، بحثًا عن امتياز أخلاقي داخل هوية أخرى قائمة على نفي الآخر لا على التعايش معه.
ولأنهم يفتقدون القدرة على بناء خطاب متماسك، فإنهم يميلون إلى شعارات الكولونيالية التي يتبنّاها بعض أبناء الشريط النيلي. فتارةً يرفعون شعارات ضد التطبيع، وتارةً أخرى يُعيدون تدوير مقولة “الجنجويد الجيد هو الجنجويد الميت”، على غرار المقولة الصهيونية “العربي الجيد هو العربي الميت”.
هذه المقارنات لا تُؤسّس لخطاب مقاوم، بل تفضح خواءه. إذ لا يمكن تجاوز الأزمة ما لم نُنتج مفاهيم اجتماعية جديدة، تنأى عن الأوهام الأخلاقية التي خلّفتها تجارب الإسلام السياسي، وتكفّ عن شيطنة المجتمع لتبرئة النخب.
والمطلوب اليوم ليس إعادة تدوير خطاب الضحية والجلاد، بل تفكيك العلاقة التاريخية بين السلطة والهوية، وتحريرها من تبنّي شعارات “عبء الرجل الأبيض”، ومقارنة ميراث “الجلابي الشمالي” تجاه الآخر، في نهج يجعل من الآخر موضوعًا للهيمنة لا شريكًا في الوطن.
إن السياسة السودانية، ما لم تتحرر من عقلية شراء الذمم والارتهان للممول، لن تقدّم شيئًا سوى المزيد من الصراع. وبدلًا من تحميل المجتمع وزر كل شيء، على النخب أن تُعيد النظر في موقعها داخل شبكة المصالح، وتكفّ عن الحديث باسم الضحايا وهي تتقاسم الغنائم مع الجلاد.
نحن بحاجة إلى رؤية جديدة لا تقوم على تجزئة المجتمعات أو إخضاعها، دون أسلوب الوصاية الذي يمارسه بعض الشماليين على بقية مجتمعات السودان، بل تقوم على فهم المصالح المتبادلة، والاعتراف بالشراكة لا الاستعلاء.
إرسال التعليق