كاربينو يكتب: الشرعية من الشارع إلى المنصة ، السودان يقدم مشروعه الجديد للعالم
في لحظة تاريخية حاسمة يتقدم السودان الجديد إلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ممثلاً لحكومة السلام والوحدة لا باعتباره سلطة أمر واقع أو نتيجة لتوازنات مؤقتة ، بل بوصفها تجسيداً فعلياً لإرادة شعبية خرجت من صلب الأزمة ، وتكونت من رحم معاناة وطن طويل مع الحرب والانقسام والتدخلات هذه الحكومة لا تُخاطب العالم لتكسب مشروعية ، بل لتُذكر بأن شرعيتها قد أُسست على قاعدة جماهيرية صلبة عبّرت عنها الحشود التلقائية التي ملأت الشوارع والساحات في المدن والقرى ، دون تحشيد أو دفع وإنما بفعل الوجدان الوطني المتماسك واستجابة لنداء السلام ، ولنداء السودان الواحد الذي يتجاوز كل انقسامات التاريخ القريب.
لم تكن الحشود التي خرجت دعماً لحكومة السلام والوحدة مجرد فعل سياسي عادي بل كانت لحظة تعبير رمزي عن استعادة الهوية الوطنية الممزقة لعقود بين المركز والهامش ، بين الجنوب والشمال ، بين الإثنيات والمكونات ، فقد أعادت هذه الحشود تعريف الوطنية السودانية على أساس جامع لا يُقصي أحداً ، ولا يحتكر الولاء ولا يختزله في سلطة أو جهة ، كان السودانيون بخروجهم العفوي يصوغون عقداً اجتماعياً جديداً قاعدته أن الوطن يتسع للجميع ، وأن الشرعية الحقيقية تُمنح من الشعب حين يقرر لا من الخارج حين يبارك.
وفي هذا السياق فإن صعود حكومة السلام والوحدة إلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ليس مجرد إعلان نوايا أو عرض لبرنامج دبلوماسي بل هو في جوهره فعل تواصلي باسم ملايين السودانيين الذين منحوا هذه الحكومة شرعية ميدانية لا لبس فيها ، شرعية لا تُقاس بعدد الممثلين في البرلمان أو التعيينات الرسمية بل تُقاس بقوة الالتفاف الشعبي التلقائي الذي لا يُشترى ولا يُصنع بل يُكتسب من مصداقية الموقف ووضوح الرؤية وعدالة المسار.
إن مخاطبة العالم في هذا السياق لا تنبع من موقع الحاجة أو العزلة ، بل من موقع المسؤولية ، فالسودان الذي خبر مرارات الحرب وعانى سنوات من العزلة والتهميش الدولي لا يعود الآن إلى الساحة الدولية طالباً للعطف أو الحماية ، بل يعود ليعرض نموذجاً في كيف يمكن لشعب منقسم أن يتوحد ، وكيف يمكن لحكومة أن تُبنى على أساس السلام لا القهر وعلى مبدأ الشراكة لا الإقصاء.
وفي مخاطبتها للعالم يجب ألا تنكفئ حكومة السلام والوحدة على القضايا المحلية فحسب ، بل ينبغي أن تكون صوتاً لضمير دولي حي يتحدث عن القضايا العادلة التي تُهم الشعوب المقهورة من السودان إلى ضحايا الحروب المنسية في إفريقيا ، ومن قضايا العدالة المناخية إلى استغلال الموارد ، فالسودان الخارج من محنته مؤهل أكثر من غيره ليحمل خطاباً إنسانياً متماسكاً ، يُعيد التوازن الأخلاقي إلى محافل دولية باتت في كثير من الأحيان أسيرة لمعادلات المصالح الباردة.
وليس من المبالغة القول إن هذا النموذج الذي تمخض عن حالة سودانية خالصة ، دون وصاية أو أجندات خارجية ، يمثل مساهمة حقيقية في التفكير السياسي الحديث في إفريقيا والعالم العربي حيث غالباً ما تكون الحكومات نتاج صفقات أو توازنات دولية لا نتيجة تعبير حر عن الإرادة الشعبية ، فالحشود السودانية التي خرجت دعماً لحكومة السلام والوحدة ، لم تكن تخاطب الداخل وحده بل كانت تقول للعالم إن هذه الحكومة ليست صدى لمرحلة انتقالية مرتبكة ، بل تعبير حي عن عودة الروح إلى الدولة السودانية بروح وطنية جديدة تتجاوز خطاب التمرد والانقسام.
ومع كل ذلك فإن التحدي الأكبر أمام الحكومة في مخاطبة المجتمع الدولي يكمن في الحفاظ على توازن دقيق بين السيادة والانفتاح ، فالسودان الذي يسعى إلى بناء شراكات يجب أن يتمسك في ذات الوقت بحقه في صياغة مساره التنموي والسياسي دون إملاءات ، وأن يُرسل رسالة واضحة مفادها أن احترام إرادة الشعوب هو الأساس لأي علاقة دولية متكافئة ، إن حكومة تستمد قوتها من شعبها قادرة تماماً على الحوار بندية وعلى رفض المعايير المزدوجة التي كثيراً ما تُستخدم ضد الدول الخارجة من النزاعات.
لكن هذا الخطاب على رصانته لا يمكن أن يكون مؤثراً ما لم يكن مرتبطاً بسلوك سياسي داخلي يعزز مضامينه ، فالحكومة التي تمثل السلام يجب أن تُمارس السلام لا كتكتيك سياسي بل كقيمة مستدامة في إدارة التنوع ، وإصلاح مؤسسات الدولة ، وتحقيق العدالة ، والوحدة لا يجب أن تبقى شعاراً بل ينبغي أن تتحقق في الممارسة اليومية من توزيع الموارد إلى تمثيل المناطق ، ومن إقرار الحقوق إلى محاربة الفساد والتمييز.
وبينما يُنصت المجتمع الدولي إلى كلمات السودان ينبغي أن يُدرك أن هذا البلد لم يعد ينتظر الوصفات الجاهزة ، ولا المساعدات المشروطة بل يتطلع إلى شراكات عادلة تُراعي خصوصيته وتدعم تجربته الناشئة ، ولعل حضور الحشود السودانية التلقائية في وجدان هذا الخطاب هو الضامن الأكبر لمصداقيته ، وهي الحاضنة التي تمنحه قوته الرمزية لأن الحكومات قد تتغير والتحالفات قد تتبدل لكن صوت الشعب حين يرتفع من أعماق التاريخ يظل هو وحده القادر على منح الشرعية وسحبها.
لقد مر السودان في تاريخه بلحظات مفصلية كثيرة لكن لحظة التقاء السلام بالوحدة وارتقاء الإرادة الشعبية إلى مستوى القرار السيادي ، تمثل منعطفاً نادراً قد لا يتكرر بسهولة إنها لحظة تتكئ على ماضٍ مثقل ، لكنها تنظر بثبات إلى المستقبل وتقول للعالم ها نحن نعود لا بوصفنا تابعين أو طارئين بل كأمة عريقة دفعت أثماناً باهظة ، لكنها لم تتخلى عن حلمها بوطن حر و عادل وموحد.


إرسال التعليق