كاربينو يكتب : الشرعية حين تُختطف والقرار حين يتبدل قراءة من خندق الداعمين لحكومة السلام الانتقالية
ليس مجلس الأمن كياناً منزهاً عن المصالح ولا منصة بريئة تتحدث فقط باسم القانون الدولي ، بل هو في جوهره غرفة عمليات لموازنة القوى العالمية وتوزيع أوراق اللعبة الجيوسياسية ، قراراته ليست نهائية ولا مطلقة بل متغيرة بتغير موازين القوة على الأرض وقد رأينا كيف أُعيد النظر في تفويضات بعثات وأُغلقت ملفات ، وأُعيد تعريف أطراف النزاع في قضايا أخرى عندما تغيرت المعطيات الميدانية والسياسية ، وبالتالي فإن النقطة الجوهرية ليست ما قرره المجلس بالأمس بل أي واقع نصنعه اليوم ليفرض على المجلس تغيير موقفه غداً.
على مدى أكثر من عامين من الحرب في السودان انهالت المبادرات الدولية لوقف إطلاق النار وكانت في معظمها تصطدم بجدار مناورات جيش الحركة الإسلامونيلية ، الDM في كل تلك الجولات تقريباً كان حاضراً ومستعداً للتفاوض ، بينما كان الجيش يغيب عن الطاولة تارة ويتعنت تارة أخرى ، ويوقف التفاوض حين يقترب من لحظة الالتزام هذه ليست وجهة نظر شخصية بل هي وقائع أثبتتها مسارات التفاوض نفسها حيث سعت أطراف الوساطة إلى جمع الطرفين ، لكن جيش الحركة الإسلامونيلية اختار سياسة “إدارة الوقت” وإطالة أمد النزاع لأنه يعرف أن السلام الحقيقي سيكسر احتكاره للسلطة والثروة.
الحركة الإسلامونيلية لم تكن يوماً مشروع دولة بل شبكة مصالح متشابكة أيديولوجياً وجغرافياً ، أيديولوجياً هي مرتبطة بالتيارات والتنظيمات الإسلامية عبر العالم تستمد منها الغطاء والدعم وتعيد لها الخدمة عبر فتح ممرات النفوذ أو تبادل الأدوار ، جغرافياً ترتبط الحركة بعلاقات مصلحية استراتيجية مع مصر تتقاسم معها ملفات السودان وتتجنب فتح ملفات شائكة مثل حلايب وشلاتين لضمان تحالف مصري كامل معها وهو تحالف يتغذى على مصالح مشتركة وشبكات ضغط تصل إلى مراكز القرار العالمية.
حين ننظر إلى ملف انفصال جنوب السودان نجد أن الحركة الإسلامونيلية قدمته على طبق من ذهب للقوى الإقليمية والدولية ، لم يكن ذلك بسبب عجزها عن منع الانفصال فقط بل كان قراراً محسوباً لتمديد بقائها في الحكم أطول فترة ممكنة ، وللتخلص من تيار ثوري كالحركة الشعبية الذي كان يهدد مستقبلهم السياسي كجماعة إسلامية ذات مشروع نيلي مغلق ، هذا التيار النيلي المرتبط بحبل سري واحد يتحكم في الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد والعلاقات الخارجية والتنظيمات السياسية ، وقد قبض ثمن هذه الصفقات لتحقيق مصالح قوى خارجية تسعى لتفكيك السودان وإعادة رسم خرائطه.
ملف البحر الأحمر مثال آخر على مقايضة الجغرافيا بالمصالح ، المنطقة تُعد محوراً استراتيجياً للقوى العالمية وأي رهانات من العصابة النيلية على تمكين دول مثل إيران أو تركيا أو غيرها هناك ، ستؤثر على قرارات المجلس ، هذا الملف كما ملف حلايب وشلاتين يُستخدم كورقة ضغط في القرارات الجيوسياسية ، ما يجعل الموقف الدولي محكوماً بالصفقات أكثر من المبادئ.
تحالف “صمود” مثال حي على امتداد هذا النهج حيث تسيطر عليه مجموعة نيلشايقية تمتلك شبكة علاقات صفراء مع نافذين عالميين وإقليميين ، ويمكنها لعب دور مؤثر في محاصرة حكومة السلام الانتقالية هذه المجموعة بحكم جذورها المتصلة بالحركة الإسلامونيلية ، تحتفظ بالولاء للشلة والنخبة واللوبيات والتكتلات القديمة ما يجعل أي مشروع وطني جديد عُرضة للمحاصرة والتشويه.
في المقابل وُلدت حكومة السلام الانتقالية بقيادة تحالف “تأسيس” من واقع ميداني حقيقي هي حكومة تضم قوى عسكرية وسياسية وثورية تسيطر على مناطق وتحكمها بسلطة الأمر الواقع ، وهو سيناريو ليس جديداً على المجتمع الدولي لقد اعترف مجلس الأمن بحكومات في ليبيا واليمن تشكلت في ظروف مشابهة بل وأعطاها شرعية دولية كاملة لأنها ارتبطت بمسارات سياسية واضحة وتعهدات إنسانية محددة.
لكن ما يميز حكومة السلام الانتقالية هو أنها وجدت تحالفاً شعبياً عريضاً من مختلف قطاعات الشعب السوداني عبرت عنه مليونيات التأييد العفوية التي لم يمولها تحالف تأسيس ، بل انطلقت من قناعة الناس وإرادتهم الحرة ، تجاهل مجلس الأمن لهذه الإرادة الشعبية يضعه في صف واحد مع قوى الشر والطغيان خاصة مع وجود أدلة موثوقة على أن الجيش هو من بدأ الحرب ومعه مجموعات من تنظيمات إرهابية وأخرى تتبع لداعش كما أقر بذلك محمد الجزولي وآخرون.
رفض الجيش لجميع منابر التفاوض لم يكن مجرد تكتيك بل كان رسالة واضحة لا سلام إلا بشروطنا ، وهنا يصبح السؤال لمجلس الأمن هل الشرعية تُمنح لمن يرفض التفاوض ويقصف المدن أم لمن يحضر المفاوضات ويسعى لوقف الحرب؟ إذا كان المجلس جاداً في حماية المدنيين فإن معايير الشرعية يجب أن تتغير.
من هنا أرى أن تحالف تأسيس أمام مهمة تاريخية وهي إكمال هياكله فوراً والنزول إلى الشارع لبناء جبهة داخلية متماسكة ، وتكثيف العمل العسكري لتوسيع نطاق السيطرة ، ليس من أجل الحرب بحد ذاتها بل لفرض أمر واقع يجعل تجاهل الحكومة أمراً مكلفاً دولياً ، العالم لا يعترف إلا بالقوي والقوة هنا ليست فقط في السلاح ، بل في القدرة على الحوكمة والانضباط وفي تقديم نموذج دولة حتى في أصعب الظروف.
الشرعية المختطفة لا تُسترد بالخطابات وحدها بل بالفعل الميداني والسياسي والدبلوماسي ، المطلوب أن يحيي تحالف تأسيس تنظيماته ويبعث روح الحراك السياسي وينفتح على كل المنابر الإقليمية والدولية لا ليطلب الشرعية بل ليفرضها كحقيقة قائمة ، وفي الوقت نفسه عليه أن يبحث عن الشرعية الشعبية فهي الأصل وهي التي تحمي أي اعتراف دولي من السقوط عند أول هزة.
في النهاية مجلس الأمن ليس ضد حكومة السلام الانتقالية لذاتها بل ضد الطريقة التي يمكن أن تُقدم بها إذا بدت أحادية أو معزولة عن مسار تفاوضي جامع ، إذا أردنا قلب المعادلة فعلينا أن نصنع حالة لا يمكن تجاهلها شرعية من الشعب ، قوة على الأرض ، التزام بالقانون الدولي ، ومسار سياسي واضح ، حينها فقط لن يكون المجلس قادراً على البقاء في صف المتآمرين دون أن يدفع كلفة سياسية وأخلاقية عالية
إرسال التعليق