علي جادالله: اعتقال المصباح والهيمنة المصرية على تحالف بورتسودان
جذور التدخل المصري في السودان
منذ سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، حيث برزت التدخلات المصرية في الشأن السوداني كعامل مهيمن في تشكيل المشهد السياسي والعسكري في البلاد. هذه التدخلات، التي اتخذت أشكالًا متعددة، تراوحت بين الدعم السياسي لفصائل سياسية، خاصة المبادرات الدبلوماسية، والنشاط العسكري المشترك. لم تكن هذه التحركات مجرد ردود فعل على التطورات السياسية، بل جزءًا من استراتيجية مصرية تهدف إلى ضمان نفوذ سياسي وعسكري في السودان، الذي يشترك مع مصر في حدود طويلة ومصالح مشتركة، خاصة في ملفات مثل مياه النيل والتبادل التجاري
المبادرات المصرية تمثل محاولات لتوجيه المسار السياس ويبرز التدخل المصري سواء كان في طرح مبادرات سياسية قبل اندلاع الحرب في أبريل 2023، خلال الفترة التي سبقت الحرب، وأثناء رعاية الآلية الرباعية (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية، والإمارات) للاتفاق الإطاري الذي هدف إلى إكمال التحول المدني الديمقراطي. آنذاك طرحت مصر مبادرة موازية جمعت قوى الكتلة الديمقراطية وبعض القوى السياسية الأخرى. هذه المبادرة، التي قُدمت كبديل لجهود الرباعية، وزعمت أنها تهدف إلى منع الحرب واكمال المرحلة الانتقالية. لكنها كشفت عن أهداف أخرى، إذ كانت المبادرة تسعى إلى إفشال الاتفاق الإطاري ودفع السودان نحو صراع مسلح كانت ملامحه تُعد في الخفاء.
تأكيدًا لهذا التوجه، سبقت الحرب مناورات عسكرية وتدريبات مشتركة، كان آخرها تواجد القوات الجوية المصرية في قاعدة مروي العسكرية شمال السودان، التي أصبحت إحدى مراحل الاشتباك في الحرب. هذا التواجد العسكري أكد وتورطها المباشر في النزاع. بل ذهب قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إلى اتهام القوات المصرية بالمشاركة الفعلية في الحرب.
في يوليو 2024، أطلقت مصر مبادرة جديدة تحت عنوان “الحوار السوداني-السوداني”، جمعت فيها ذات القوى السياسية التي دعمتها سابقًا، بهدف إفشال الاتفاق الاطاري، بعتبارها بديل وتحت دعاوى إيقاف الحرب وإعادة إعمار السودان. لكن هذه المبادرة، مثل سابقاتها، لم تحقق شيء. يعزى فشل هذه المبادرات إلى أهدافها الحقيقية، التي مراهنت على استمرار الحرب وتحقيق انتصار عسكري لصالح جيش برهان موالية لمصر، بدلاً من السعي لتسوية سياسية شاملة. هذا الفشل يعكس نهجًا مصريًا يعتمد على إدارة الأزمة بدلاً من حلها، لضمان استمرار النفوذ على القوى السياسية والعسكرية في السودان.
بعد فشل المبادرات السياسية، تحولت مصر إلى تعزيز هيمنتها على الفضاء السياسي لتحالف بورتسودان، الذي برز كقاعدة سياسية وعسكرية لجيش لجيش برهان وقوى موالية له بعد بعد نقل مؤسساتهم التي هيمنت عليها الحركة الإسلامية، مستفيدة من نفوذها التاريخي في مؤسسات الدولة. لكن الضغوط العسكرية والسياسية التي واجهها التحالف، إلى جانب الرغبة المصرية في الحد من تمدد الإسلاميين، دفع التحالف إلى قبول تعيين شخصيات مقربة من مصر في مناصب قيادية.
من بين هذه التعيينات، اختيار علي يوسف الشريف، ذي الأصول المصرية، وزيرًا للخارجية، ثم تعيين كامل إدريس رئيسًا للوزراء في بورتسودان، بناءً على ترشيح من تحالف “الخط الوطني” و”الكتلة الديمقراطية”، والأول تحالف سياسي صنع في مصر لتعزيز نفوذها. كل التكتيكات السياسية كان الغرض منها سيطرة مصر على تحالف بورتسودان، حيث أصبحت القوى السياسية الموالية لها، بعتبارها هشة ومتفككة ومتباينة المصالح وتفتقر إلى قاعدة شعبية واسعة، وهي المحرك الرئيسي للتحالف، على حساب نفوذ الحركة الإسلامية.
هناك التحالفات الدولية وصراع النفوذ متوتر في المنطقة، تسعى مصر من خلال هيمنتها على تحالف بورتسودان إلى الحد من انفتاح الحركة الإسلامية على تحالفات دولية، خاصة مع إيران وقطر. فإيران، التي الاسلاميين بالسلاح، وقطر، التي تقدم دعمًا ماليًا، تشكلان تهديدًا للنفوذ المصري في السودان. هذا الصراع على النفوذ يعكس التنافس الإقليمي، حيث تسعى مصر إلى ضمان أن تظل القوى السياسية والعسكرية في السودان تحت سيطرتها أو على الأقل غير قادرة على بناء تحالفات مستقلة.
اعتقال المصباح يؤكد تصدع الصراع الداخلي، ففي الآونة الأخيرة شهدت الخرطوم توترات بين الحركات المسلحة المشتركة ومليشيات كتيبة البراء ودرع السودان القبلية. هذه التوترات دفعت رئيس البرهان، إلى إصدار قرار بإخلاء الخرطوم من المسلحين، في محاولة لتقليص النفوذ العسكري للمليشيات . مليشيا كتيبة البراء، التي أدركت أنها الهدف الأساسي لهذا القرار، قلصت من نشاطها المسلح وتحولت إلى العمل المدني، موجهة عناصرها نحو تقديم إسناد مدني كاستراتيجية للحفاظ على وجودها في مواجهة التهديدات الوجودية.
اعتقال المصباح يعكس الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية. حيث تم الاعتقال بالتنسيق بين مدير مكتب البرهان، مدثر، و السلطات المصرية، في خطوة هدفها إضعاف الحركة الإسلامية وتعزيز سيطرة مصر على المشهد السياسي. هذا الاعتقال يؤكد وجود تآمر منظم ضد المصباح ظاهريا والإسلاميين بصورة أشمل.
طموح مصر الاستراتيجي يهدف إلى خلق تيار سياسي هش موالٍ لها، غير قادر على التمرد أو بناء تحالفات دولية مستقلة. اعتقال المصباح، إلى جانب التعيينات السياسية في تحالف بورتسودان، يعكس هذا التوجه الاستراتيجي. من خلال دعم قوى سياسية ضعيفة وتقليص نفوذ الإسلاميين، في ظل صراع إقليمي ودولي تواجه فيه مصر ملفات معقدة مع السعودية ودول الخليج وأمن البحر الأحمر وإسرائيل. وهذا التوجه الذي يعتمد في نهاية الأمر على إدارة الأزمات بدلاً من حلها، يعمق ويعرقل أي جهود دولية لإنهاء الحرب السودان.
إرسال التعليق