عبد الحفيظ الامام قسوم : مدخل ثانٍ للتأسيس: نحو تمثيل عادل ومستدام للسلطة في السودان
المقدمة
يشهد السودان منذ استقلاله أزمات سياسية متلاحقة، يغلب عليها طابع الصراع حول السلطة والثروة، وما صاحبها من تهميش وانفراد بالقرار السياسي. وقد تسببت هذه المعضلة في إشعال الحروب وتمزيق النسيج الوطني، حتى باتت الحاجة ملحّة لمدخل جديد يؤسس لمرحلة أكثر استقرارًا وعدالة. ورغم أن الحل الجذري يكمن في التوزيع العادل للسلطة والثروة، إلا أن طريقة الوصول إلى هذا الهدف هي ما يحدد نجاح التجربة أو فشلها. هنا يبرز المدخل الثاني للتأسيس بوصفه رؤية مكملة، تسعى لتجاوز أخطاء الماضي، وتجنب الوقوع في فخ المحاصصة أو ربط السلطة بعدد التضحيات.
لا شك أن التهميش والانفراد بالسلطة والثروة ظلّا سمة متعاقبة عبر تاريخ السودان الحديث، ما أسهم في تأجيج الصراعات وإطالة أمد الحروب. فقد شكّل الخلاف حول تقاسم السلطة والثروة أحد المحركات الرئيسة للأزمات السياسية والعسكرية، حتى باتت هذه القضية في قلب كل جولة تفاوض أو اتفاق.
ورغم أن المدخل الأساس لإيقاف الحروب يكمن في معالجة جذورها عبر التوزيع العادل والمتساوي للسلطة والثروة، إلا أن التجارب السابقة أثبتت أن الآلية المعتمدة لتحقيق ذلك قد تكون هي التحدي الأكبر. فالتجربة الأخيرة بعد ثورة ديسمبر، حين تم اختيار آلية المحاصصة لتقسيم السلطة في حكومة الشراكة، أظهرت محدودية هذه المقاربة، إذ ساهمت في إعادة إنتاج الأزمة بدل تجاوزها.
نجد اليوم أن حكومة بورتسودان تعاملت مع المشاركة في السلطة من منطلق التضحيات، خاصة بصورة جلية في مشاركة الحركات المسلحة، وهو نهج يعيد إنتاج فكرة أن السلاح هو الوسيلة الأنجع للوصول إلى الحكم.
بعد اندلاع الحرب الأخيرة، برز تحالف تأسيس كقوة سياسية شخصت الأزمة تشخيصًا واقعيًا، غير أنني لا أتفق مع الآلية التي يدور الحديث حولها في أذهان بعض الفاعلين، والمتمثلة في ربط استحقاق السلطة بعدد التضحيات التي قدمتها المجموعات او المجتمعات. فتح هذا الباب يحمل مخاطر كبيرة، إذ يحوّل التضحية، وهي قيمة وطنية سامية، إلى أداة لمكاسب ضيقة، ويزرع في الوعي السياسي فكرة أن الطريق الأقصر للسلطة هو السلاح خاصة في بلدنا التي تعانى من أزمة الانقلابات العسكرية وعدم الصبر علي الوسائل السلمية للديمقراطية.
من هنا، أرى أن التمثيل في السلطة يجب أن يقوم على ثلاثة مستويات متكاملة:
- المستوى الانتخابي: إجراء انتخابات في أقرب فرصة ممكنة، سواء على المستوى القومي، الإقليمي أو الولائي، مع إدراك أن المرحلة الأولى قد تحسم لصالح المجتمعات الأكثر عددًا، لكن التجربة ستنضج مع الوقت، لينتقل التنافس من كثافة الكتل السكانية إلى قوة البرامج السياسية.
- المستوى المجتمعي: تخصيص نسبة من السلطة لتمثيل المجتمعات المحلية، بما يضمن استقرار المرحلة الانتقالية ويمنح الجميع شعورًا بالشراكة.
- مستوى الأحزاب السياسية: تمثيل القوى الحزبية الفاعلة بما يعكس حضورها وتأثيرها في المشهد الوطني.
إخضاع هذه المستويات الثلاثة بالكامل لمنطق المحاصصة لا يخدم التحول الديمقراطي في المستقبل، بل يفتح الباب لإطالة أمد الحكم عبر تعديل الدساتير والتحايل على القوانين. أما المزج بين الانتخابات والتمثيل المجتمعي والحزبي، فيوفر توازنًا ضروريًا لاستقرار الحكومات، ويضع الأساس لثقافة سياسية جديدة قوامها البرامج والرؤى، لا الأوزان القبلية أو رصيد السلاح.
التقاطع مع النموذج البوليفي
ويقترب هذا التصور للمدخل الثاني للتأسيس من النموذج البوليفي، الذي اعتمد مزيجًا متوازنًا بين التمثيل الانتخابي، والتمثيل المجتمعي، والحضور الحزبي، مما أتاح دمج المكوّنات الاجتماعية والسياسية المختلفة في إدارة الدولة. فقد نجح هذا النموذج في بوليفيا في تقليل حدة الصراع حول السلطة، لأنه لم يترك الأمر للأغلبية العددية وحدها التي قد تُقصي الأقليات، ولم يحصر التوزيع في منطق المحاصصة الذي يكرّس الانقسام، بل وفّر آلية تضمن الشراكة الحقيقية للجميع. ورغم التشابه في المبدأ، فإن خصوصية الواقع السوداني تفرض تطوير هذا النموذج بما يتلاءم مع تركيبته القبلية والسياسية، ومع الحاجة الملحّة لتجاوز إرث الحروب والانقسامات.
الخاتمة
إن بناء سودان جديد يتطلب شجاعة سياسية تعترف بالأخطاء السابقة، وإرادة صادقة لتصحيح المسار. والمدخل الثاني للتأسيس الذي أدعو إليه، قائم على مزيج من الانتخابات، والتمثيل المجتمعي، والحضور الحزبي، يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. بهذه الصيغة، نحمي قيمة التضحية من الاستغلال الضيق، ونؤسس لثقافة حكم قوامها البرامج والرؤى، لا منطق الغلبة أو السلاح. إنها فرصتنا التاريخية لنكتب بداية جديدة، لا فصلاً آخر من كتاب الأزمات.
تحية بمناسبة اليوم العالمي للشباب
بمناسبة اليوم العالمي للشباب، أوجه التحية لكل شباب العالم، وأخص بالذكر شباب السودان الذين يمثلون ما يقارب 60% من مجمل سكان السودان، والذين لم يبخلوا بأرواحهم وجهودهم في سبيل الوطن. هؤلاء الشباب هم طاقة السودان الحقيقية ورصيده الأكبر للمستقبل. وأتمنى أن تجد قضاياهم المزيد من الاهتمام والعناية، سواء عبر تمثيلهم الفاعل في هياكل السلطة، أو من خلال تأهيلهم وتمكينهم، ومعالجة قضايا البطالة التي تعيق دورهم في البناء والتنمية. فمستقبل السودان لن يُصنع إلا بسواعد شبابه وعقولهم المبدعة.
إرسال التعليق