الشيخ يونس : الشعر بين العمودي والتفعيلة والنثر: نافذة تطل عليه خارج أسوار الجدال
كل مرة يعود الصراع القديم ليتجدّد بين أنصار القصيدة العمودية و قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر هذا الصراع الذي بدأ منذ أمد ليس بقريب، والعبارات نفسها تُعاد وتكرر كأنها أصداء في بحر لا تنتهي رجعته؛ هنالك من يرفع راية الوزن الصارم بوصفه يمثل أرومة وهوية الشعر العربي وأصالته، وهناك من يدافع عن التفعيلة كجسرٍ بين الأصيل التقليدي والحر وبوصفها قالباً أكثر مرونةً وإنفتاحًا، وثالثٌ يرى في النثر انعتاقًا وتحرراً من كل قيدٍ وفتحًا لبراحات وسوح المعانى.
أما أنا، فلا أنحاز إلى أي معسكر ولا ألوّح بسلاح النقد، بل أطلّ من نافذتي على ذلك العالم الذي صار غرفة لا تعرف جدرانًا ولا أية حدود أو فواصل، فأرى القصيدة العمودية شامخةً كعمود رخام في معبد عتيق يلمع في ضوء التاريخ، وأرى قصيدة التفعيلة تمشي بخطى عفوية وجميلة على ممرّ من موسيقى متكسّرة، وأرى قصيدة النثر تقفز وتلهو كطفلة في باحة الحروف، لا تعرف ولا تعترف بأن هناك شئ اسمه حدود أو فواصل.
في هذا العالم المفتوح، تختلط الأشكال كما تختلط الألوان في لوحة فنانٍ تجريدي لا يعترف بالقوالب، هنا القصيدة لا تُسأل عن جنسها أو نوعها ولا تُحاكم على شكلها بل تُحَبّ أو تُنسى بقدر ما تترك من أثر في القلب، وحين أقرأ لا أسمع سوى صوت واحد صوت الشعر نفسه، حين يهمس في أذني بما لم أكن أعرف أنني أبحث عنه.
لقد أدركت أن المعركة الحقيقية ليست بين الوزن واللا وزن، ولا بين القافية والإنفلات، بل بين اللغة حين تصبح جسدًا بلا روح، وبينها وهي تنبض بالحياة؛ القصيدة، أيًّا كان شكلها، إن لم توقظ الجمالي وتحرّك النبض وتُطل بك على عوالم من الدهشة، فهي مجرد كلمات مصطفّة، مهما كانت طريقتها ونظامها سواء كان محكمًا أو فوضويًا.
ولا أرى أفضل من هذه القصيدة للشاعر المغربي -المتميز وأحد أفضل الأصوات الشعرية حالياً- محمد عريج تعبيراً عن هذا الكلام:
أحبَّكِ
لكنْ خارجَ اللغة التي يسيلُ دمٌ
منْ وجهها المتغَضِّنِ
وخارجَ ميزانِ البلاغةِ،
وحدها بلاغتنا عندَ العناقِ تهزُّني
وخارجَ أسرار المواقيتِ،
إنَّ لي صلاةً أصليها بغير مُؤَذِّنِ
أنا شاعرٌ
علّقتُ في غيمةٍ فمي
وغنّيتُ أعْلى: ديدنُ الرّيحِ ديدني
لأكتبَ
أمشي شارعا بعد شارعٍ
إلى أي شيء غامضٍ غير معلنِ.
أحرك أحجار الطريق محاولا
قراءةَ عشبٍ بعدُ لم يتلوّنِ
وأرنو إلى آثار كعبٍ كأنها
مسامير دقّتْ في شفاهٍ وأعيُنِ
وأجمعُ أعقاب السجائر، ربما
يفوحُ من الأعقابِ حزنُ المدخّنِ



إرسال التعليق