محمد الحبيب يونس : مقاربة سيميائية لقصيدة البحر القديمللشاعر مصطفى سند - صوت الوحدة

محمد الحبيب يونس : مقاربة سيميائية لقصيدة البحر القديمللشاعر مصطفى سند

العنوان
العنوان” أصبح حلقة أساسية ضمن حلقات البناء الإستراتيجي للنص ؛ لأنه مفتاح التجربة وكنزها المعبأ بكل صنوف الوجدان..،ولذلك يومئ إلى أمر غائب في النص على القارئ أن يبحث عنه..” وإن عنوان النص المدروس هنا :” البحر القديم ” يتألف من صفة وموصوف ، فالبحر خبر لمبتدأ محذوف يمكن تقديره ب(هذا أو هو )والقديم صفة لهذا البحر ، إن البحر في أحدى معانيه يدل على العمق والاتساع والاحتواء على الأسرار وبعد قراءات للنص وجدنا أن النص ينقسم من حيث الزمن إلى ماض شبابٍ وقوةٍ وحاضر عجزٍ خرابٍ ، ؛فالماضي وصل درجة من البناء والكمال والازدهار جعلته يترقي لمرتبة المثال والأنموذج ، أما الحاضر فهو عكس الماضي فهو( حوائطٌ ليلٌ ) تحجب رؤية ذلك الازدهارو(خريف ) آلات إليه الحياة بعد أن كانت ربيعا ، وبناءً على ما سبق يمكن القول أن البحر القديم هو زمن الماضي الخصب المفعم بالحياة والأسرار.
دلالة المخاطَب والمتكلم:
وِفقاً للسياقات التي ورد فيها ضميرُ المخاطبِ،لمحنا أنه يرتبط بزمن الماضي ، وهو زمن الشباب والربيع الذي يقابله حاضرُ الكهولة والشيخوخة،ومن ثم فإن المعادل الموضوعي للدال ( ضمير المخاطَب )هو الزمن المثالي الذي كانت عليه الحياة ثم آلت إلى ذبول بعده نلمح هذا التحول في قوله: )بيني وبينك سكّة السفر الطويل من الربيع إلي الخريف(،إن المخاطَب مرتبط بحقب مجيدة ، عاشتها أمةٌ ما أو وطن ما،ولأنها حقب ازدهار لذلك يحاول الشاعر إنشاء جسورٍ بين حاضره ِ وتلك الحقب ومما يدعم هذا التأويلَ المقطعُ الآتي:
“ودعوك تاج العز.. صبوا في دماك عصارة الكذب المخيف”فالمخاطَب هنا أقرب إلى أن يكون تاريخا مجيدا يغالي الناس في تضخيمه وتعظيمه وذلك ينسجم مع حالات الأمم.وإذا كان ضمير المخاطب مرتبط بزمن الربيع والشباب فإن ضمير المتكلم جاء مرتبطا بزمن الحاضر الذي يمثل الشيخوخة والخراب كما تجسد ذلك الأسطرُ التالية:
((بيني وبينك تستبين مخالبي وتسيل من شدقي الدماء/وحش أنا غول خرافيُّ العواء/ تحوى توابيتي دقيق الموت/تزحف من سراديبي ثعابين الشتاء/سبري: عجين السدر سن الحوت هيكل مومياء)) فكما الملاحظ أن الدوال التي تحيل إلى الخراب مرتبطة بضمير المتكلم (مخالبي،تسيل من شدقي الدماء،غول أنا..) وبناء على هذا يمكننا القول أن ضمير المتكلم خرج من دلالته على الفرد فهو هنا علامة تشير إلى جماعة الشاعر في الحاضر.
البنية العاملية:
ولأنه من البديهي أن لكل نص ذاتا وموضوعا تتعدى إليه كان لا بد من تحليل البنية العاملية للنص ” وتتكون البنية العاملية ـ حسب غريماس ـ من ستة عوامل رئيسة هي: المرسل والمرسل إليه على مستوى التواصل والذات والموضوع والمساعد والمعاكس على مستوى الصراع”
تتألف فكرة النص من ثنائية الواقع والمثال،حيث تمثل بنية الواقع حال الشاعر (الأمة)المرتبطة بزمن الحاضر وهي حال تنطوي على خراب،أما المثال فيتجسد في الماضي الذي يرمز إليه المخاطَب ، فالمتكلم الدال على الحاضر يسعى إلى الاتصال بالماضي وتحول دون ذلك عوائق وموانع.
إن الذات/الشاعر تسعى إلى تحقيق موضوع معين هو الماضي والرغبة في ذلك هي استعادة أمجاد الماضي وحيويته وتحول دون هذه الرغبة عقبات تتمثل في خراب الحاضرويساعد على تحقيق هذا الموضوع الأدب بوصفه عاملَ بناءٍ وذكرياتُ الماضي بوصفها أنموذجاً يتحتذى به في ترميم الحاضر،والمستفيد من استعادة ازدهار الماضي هو الشاعر وقومه.
البنية الدلالية:
1ـــــ احتجاب الماضي:
” بيني وبينك تستطيل حوائط ..ليل …وينهض ألف باب
بيني وبينك تستبين كهولتي وتذوب أقنعة الشباب
ماذا يقول الناس إذ يتمايل النخل العجوز سفاهة
ويعود للأرض الخراب….شبق الجروف البكر للأمطار حين
تصلّ في القيعان رقرقة السراب
عبرت ملامحك النضيرة خاطري فهتفت ليتك لا تزال”
نلاحظ أن العلامات في قوله:(بيني وبينك،حوائط،ليل،باب)قدشكلتْ أيقونة عكستْ مشهد الحُجبِ والعقبات التي تحول بين المتكلم/الحاضر والمخاطَب /الماضي المثال كذلك جسد هذا المقطع حال الواقع المتمثلة في الكهولة والشيخوخة والعبث،وحال الماضي المفعمة بالشباب والحيوية نجد ذلك في علامات التركيب الآتي:
(بيني وبينك تستبين كهولتي تذوب أقنعة الشباب)
فالمعطى النصي (الكهولة) يحيل إلى التحول الذي أصاب الزمن من حالة قوة إلى حالة ضعف ، و الاستعارة (تذوب أقنعة الشباب) تصور تلاشى الوهم وظهور الحقيقة،أي غياب زمن الخصب وظهور زمن الضعف والعجز في المتكلم/الحاضر.
و المقطع أيضا يصف العبث وغياب العقل في الحاضر (يتمايل النخل العجوز سفاهة ) فوصف النخل بالعجوز علامة ترمز لضعف الحياة في الحاضر،ووصفه بالتمايل سفاهة دليل يجسد العجز وغياب العقل في آن واحد.
كذلك نجد أن العلامات :” شبق الجروف البكر للأمطار،الأرض الخراب ،رقرقة السراب”
توحي بجفاف الحاضر وخرابه، فالاستعارة (شبق الجروف البكر للامطار)
تجسد عطش الحاضر الشديد للأمطار،وهذا يشاكل الاستعارة في قوله:( حين تصل في القيعان رقرقة السراب) فكلا الاستعارتين ساهمتا في تكثيف صورة الذبول والعطش في الحاضر، ومن ثم فإن ذبول الحاضر الذي نلمسه في هذا المقطع يتضمن الغائبَ النقيضَ أي انتعاش الماضي وحيويته،تلك الحيوية التي نملمسها تصريحاً في الصورة:(عبر ملامحك النضيرة خاطري فهتفت ليتك لا تزال)،فهذه الصورة تحيل إلى الماضي الخصب الذي أضحى ذكرى تخطر للشاعر،ولكنها مستحيلة المنال إذ يدل التمنى (ليتك) وقوله( فهتفت ) إلى بعد المنادى واستحالته .
2ــــــ أثر الماضى في الحاضر:
” للريح خمرك للمساء وللظلال والبرق لي .. والرعد والسحب الخطاطيف الطوال
تروى هجير النار تحت أضالعي الحرّى وتلحف في السؤال
كيف ارتحالك في العشيّ بلا حقائب أو لحاف ؟
ترتاد أقبية المكاتب والرفوف السود والصحف العجاف “
يكشف المقطع عن أثر الذكرى وتلاشيه السريع في نفس الشاعر فالعلامة (خمرك) تدل على أثر الذكرى ولكنه أثر سريع التلاشي والغياب إذ تدل العلامات (للريح.. للمساء وللظلال) إلى سرعة تلاشيه.
كما يكشف المقطع عن حالات متعددة للشاعر كلها تصب في المعاناة ، فالمعطيات (البرق لي والرعد لي) تشيع جو الكآبة والسوداوية فهذه العلامات – خرجت عن دلالة الإرواء الحقيقي لتجسد عذاب الشاعر وانتظاره المر،ذلك الانتظار الذي لا ينتهي بالإرواء بل يكون عكس ذلك إذا توحي الصورة (السحب الخطاطيف الطوال تروي هجير النار) إلى أن السحب لا تطفئ عذابه الداخلي بل تأججه وتقويه بإروائها له ، والسحب هنا علامة ترمز للماضي وانتظار الشاعر له.
وعلى الرغم من الاحتفاء بالماضي فإن المقطع يوحي بأن الماضي أضحى جامدا سجينا في الكتب والصحف،فهذه الصورة(ترتاد أقبية المكاتب والرفوف السود والصحف العجاف)
تجسد جمود الماضي وعدم فاعليته في الحاضر فهو كالتراث أو التاريخ حبيس المتاحف والكتب و الصحف،وهذا الوصف للماضي مؤشر على موقف الشاعر من الماضي/التراث،فهو
لا يريد الماضي كصنم لا يفيد الواقع ولا يدفع الحياة للأمام ، بل يريد أن يكون الماضي قاعدة
لبناء المستفبل ،كذلك في الاستعارة ( الصحٍف العجاف) مؤشر آخر يوحي بانتشار الكذب والتزيف في الحاضر ويجسد موقف وسائل الأعلام التي تلوذ بأمجاد الماضي لتغطية عيوب الحاضر،وهذه الصورة نواة دلالية ستتفرع في كثير من المقاطع
“زمنا يمصّ الضوء من عينيك
يصلب وجهك المنسيّ في الدرج العتيق
أثرا كومض شرارة تعبى على خشب الحريق
كيف ارتحالك أيها المصلوب مثل شواهد الموتى بزاوية الطريق”
نلاحظ أن الشاعر عمد إلى حذف الفاعل في الأفعال (يُمص،يُصلب) وهذا الحذف أعطى المحذوف مساحة دلالية أكبر،ويمكن تأويل الفاعل المحذوف في(يمص)بكل مستفيد من الماضي ، إذ تجسد الصورة(زمنا يُمص الضوء من عينيك) معنى الاستفادة،فالضوء يرمز إلى القيم و المعارف والخبرات..التي تستوحى من المخاطب( الماضي التراث). وإشارته إلى الماضي مجازا ب(عينيك) كثف هذه الدلالة،ذلك لأن العين توحي بمعاني الكشف والعلم والتأمل وهذا ينسق مع وصف الماضي بأنه مصدر الهام.
ونجد أن الفاعل المحذوف في( يُصلب) يضعنا أمام مدلول حرٍّا يرمز إلى كل قطيعة بين الماضي والحاضر وكل من يسعى إلى دفن التراث حيث توحي بذلك الصورة (يصلب وجهك المنسي في الدرج العتيق)، فهي تلمح إلى القطيعة بين الحاضر والماضي فالمخاطَب هنا يُمثل التراث في حين يمثل الفاعل المحذوف أولئك المتنكرين على التراث،الذين يحاولون تجميده في الكتب و إخماده وجعله مجرد شاهد على حياة سابقة كما تشير إلى ذلك العلامات ( المنسي في الدرج العتيق ،شواهد الموتى ، أثرا كموض شرارة).
“سكن السحاب ومرّ طيفك من جديد
نثرته كفّ البرق حين تلاحق الإيماض وانعتقت شرارات الرعود
أرخى وأزهر ثم طار زنابق كالفجر لامعة الخدود
حلق المرايا رنّ كالناقوس وانفرطت ملايين العقود
فإذا هممتُ توارت الألوان وانتصبت شبابيك الجليد
أنا في الرياح مسافر يلقى على الأبواب جارحة الردود”
تكشف العلامات:(برق،رعود طار زنابقاً) عن خصوبة الماضي وتجليه بشكل سريع لا يشفي غليل الشاعر فهو تنثره كف البرق ويطير كالزنابق ،إذ سرعان ما يختفي وينحجب عن الشاعر ،
وهذا يشاكل هذا الصورة (..توارت الألوان و انتصبت شبابيك الجليد) التي صوّرتْ الحجابَ الذي يحول بين الشاعر والماضي،ونلمح ذات المعنى في الصورة(أنا في الرياح مسافر يلقي على الأبواب)،فقوله(أنا في الرياح مسافر) يكشف عن الغربة والضياع بحثا عن الماضي،في حين تكشف العبارة(يلقى الأبواب حارجة الردود) عن الحجب التي تحول بينه وبين الماضي، فالأبواب هنا علامة تجسد كل عقبات الواقع التي تمنع رؤية الشاعر للماضي.
3ــــــ خراب الحاضر:
“بيني وبينك تستبين مخالبي وتسيل من شدقي الدماء
وحش أنا غول خرافيُّ العواء
تحوى توابيتي دقيق الموت تزحف من سراديبي ثعابين الشتاء
سبري: عجين السدر سن الحوت هيكل مومياء”
يصور المقطع خراب الحاضر وهو خراب لا يمثل حالة فردية بل يمثل خراب أكبر،فضمير المتكلم المسند إليه الخراب يمثل دالا حرا يرمز لصراعات داخل جماعة الشاعرِ وما ينتج عنها من خراب،ولا يشير إلى معين،إن المقطع يمثل لحظة دموية، الجاني فيها هو المجني عليه كما تدل على ذلك هذه الصورة (بيني وبينك تستبين مخالبي وتسيل من شدقي الدماء ) فهذه الصورة تصور صراعات داخلية،والمؤشر على ذلك أن سيلان الدماء من الشاعر سببه مخالب الشاعر ذاته؛مما يجعل من هذه الصورة أيقونة ترسم صور النزاع بين أصاحب الوطن الواحد.، وتذهب القصيدة إلى أقصى صور القتامة والدمار وقد عضددت ذلك الصور(وحش أنا غول.. تحوي توابيتي دقيق الموت.تزحف في سراديبي ثعابين الشتاء)
إن وصف الشاعر لذاته بالوحش والغول علامة تشي بالبدائية والهمجية التي تسيطر على الحاضر كما تشي بغياب العقل وسيطرت الخرافة على الحاضر،كما أن العلامات(تزحف في سراديبي ثعابين الشتاء،سن الحوت ) تجسد غياب الأمن والغدر والخوف في الواقع،أما العلامات(توابيتي،سراديبي،هكيل مومياء)تجسد معاني الموت،والعزلة،والخوف،والظلام، والموت هنا قد يكون موتاً حقيقيا،أوموتاً رمزياً يتعلق بموت القيم والأخلاق والثقافة ..الخ
“بيني وبينك ما يراه الناس سروة شاطىء ناء وزهرة كستناء
تتلاصقان على الرمال فتذهل الدنيا وترتعش الحقول”
هذا المقطع أحدث كسرا للإيقاع الدلالي السابق إذ سيطرت عليه نبرة الاحتفاء بالحياة،وهذا الانزياح الداخلي للنص أي تحوله من مناخ القتامة إلى مناخ جمالي أكسب النص سمة التعدد كما كسر أفق التلقي فمن المتوقع أن يسير النص على وتيرة واحدة
هذه الصور المفمعة بالحياة هنا قد كشفت عن جماليات الماضي وعن موقف الشاعر من الماضي إذ يرى أنه منعش للحياة ولكن هذا الإنعاش مشروط بتلاصق (السروة النائية والكستناء) بالرمال ، فالرمل هنا يحيل بشكل مباشر إلى الحاضر الجدب الذي في حاجة لتمدد خصوبة الماضي فيه لكي تنتعش حقوله،وقد أشار لخصوبة الماضي بالعلامات (كستناء وسروة) وألمح إلى بُعد ذلك الزمن الخصب عن الحاضر بالعلامة(نائي)
4 ــــ التحولات:
“كيف التجاؤك للتماثيل التي أسنت على برك الوحول؟
منك الشباب عصارة النبت الجديد
ومهرجانات الفصول ونراك تحفل بالعواجيز العتاق صفائح الأيّام مقبرة الأفول
بيني وبينك سكّة السفر الطويل من الربيع الي الخريف”
هذه الأسطر تشاكل في المقاطع السابقة صور تحول الماضي من حيوية الشباب إلى(النخل العجوز) وتجمده (في الرفوف السود…) و (الدرج العتيق) ، إذ تكشف هذه الأسطر عن حيرة الشاعر من تحول الماضي إلى تراث جامد ، فعلى الرغم من اعترافه بأن الماضي زمن خصوبة وعطاء إلا أنه يعترف بأنه صار تراثا و مجرد أصنام ليس لها فاعلية في تطوير الحاضر ،حيث نجد أن الجملة الاستفهامية ( كيف التجاؤك للتماثيل التي أسنت على برك الوحول) جسدت موقف الشاعر الرافض لهذا الجمود ، ذلك لأن هنا الاستفهام إنكاري مما أوحي بأن الشاعر يريد عكس ذلك، أي أن يكون الماضي أساسا لبناء الحاضر وهذا المعنى نلمسه بوضوح في الصورة (منك الشباب عصارة النبت الجديد ومهرجانات الفصول) فهي تكشف عما يتمناه الشاعر من الماضي، حيث يكون امتدادا لتطور الحياة في الحاضر و المستقبل ،فالعلامات الشباب والنبت الجديد تحيلان على الحاضر والمستقبل وازدهارهما،وتوحي العلامة (مهرجانات
الفصول) بتجدد وتطور الحياة،ولكن هذه الأحلام المثالية التي يتمناها الشاعر،تقابلها حقيقة الواقع،حيث صار الماضي لا يجدي نفعاً،كما نلاحظ في هذه الصور ( ونراك تحفل بالعواجيز العتاق،صفائح الأيام،مقبرة الأفول) أن الماضي تحول من قوة إلى ضعف وعجز،فالعلامة (العواجيز) مع سياقها اللغوي توحي بذلك وتوحي بسخرية الشاعر من سجناء التراث، فالماضي أضحى منعزلاً عن تطور الحاضر مما جعله لا يجدي نفعا،وهذا يشاكل العلامات (صفائح الأيام،مقبرة الأفول) فهي كلها تجسد عزلة الماضي عن الواقع ومن ثم عدم قدرته على العطاء وأفوله.
يرسم الشاعر مشهدا لتغير الزمن من الازدهار والشباب إلى الذبول والعجز بالأيقونة(بيني وبينك سكة السفر الطويل من الربيع إلى الخريف)؛فالدال ربيع يحيل إلى الماضي الخصب والدال الخريف يحيل إلى عجز الحاضر،وهذه الصورة تعد نمواً دلالية للصورة السابقة.
” تعلو قصور والوهم أنت ومرقدي في الليل أتربة الرصيف
هم ألبسوك دثار خزّ ناعم الأسلاك منغوم الحفيف
ودعوك تاج العزّ فخر العزّ مجد العزّ شمس العزّ عزّ العزّ
صبّوا في دماك عصارة الكذب المخيف
وأنا الذي حرق الحشاشة في هواك ممزق الأضلاع مطلول النزيف”
تكشف الثنائية الضدية (تعلو قصور الوهم أنت،ومرقدي في الليل أتربة الرصيف)
عن تمسكهم بالتراث وتركهم للحاضر(المتكلم)؛فالشاعر يمثل الحاضر الذي لا يبالون به ويتركونه شريداً في أرصف الليل،ويقابل هذا الإهمال والتشرد صورة القصر الذي يعلوه المخاطَب الذي يجسد التراث الماضي،فهذا التضاد يبرز اهتمامهم بالضائع وإهمالهم للموجود،ولكنه اهتمام غير مثمر كما توحي العلامة(قصور الوهم) ،إن موقف الشاعر من الماضي موقفٌ موضوعي فعلى الرغم من أنه يرى بأنه زمن خصوبة وازدهار إلا أنه لا يبالغ ولا يغالي في تعظيمه كالآخرين الذين يعظمونه بمغالاة فيزيفون حقيقته كما تكشف عن ذلك الصورة:(ودعوك تاج العز فخر الغز ..صبو في دماك عصارة الكذب المخيف)فهذه الصورة تجسد موقف من يُضخم أمجاد ماضيه ليغطي عيوب حاضره،ويقابل هذا التعظيم موقف الشاعر الناقد الذي يؤلمه ما آل إليه الزمن من ازدهار إلى ذبول فالصورة (وأنا الذي حرق الحشاشة في هواك) تكشف هن حال الشاعر النفسية المتألمة من ذلك التحول.
“بيني وبينك قصّة الشعراء صدر غمامة يلهو على الأفق الشفيف”
يضعنا التركيب (بيني وبينك قصة الشعراء) أمام فضاء دلالي عريض بحيث يمكن أن يكون المقصود هنا تزيف الشعراء للماضي،أي أن تزيف الشعرللماضي أصبح حجاباً عليه يحول بين حقيقته والشاعر/الحاضر،وهذا التأويل يشاكل الصورة السابق(ودعوك تاج العز..)
وكما يمكن أن تكون الصورة دالاً على فاعلية الأدب في إنتاج الماضي في صورة حيوية تنعش الحياة وتساعد في دفعها إلى الأمام وهذا التأويل يتسق مع قوله الآتي(صدر غمامة….) بحيث تكون الغمام رمز للحياة التي يساهم في بنائها الشعراء .
5ــــــ الفخر :
“هذا أنا
بحر بغير سواحل بحر هلامي عنيف
لا بدء لي لا قاع لي لا عمر لي
لكنني في الجوف ينبض قلبي النزق اللهيف.”
تعود نبرة هنا فالتركيب(هذا أنا وما تليه من أوصاف) يشيع شعور الفخر،فالدال(أنا) كما أشرنا سابقاً لا يمثل الشاعر فحسب بل هو دال يمثل جماعة،وهنا نجد أن هذا الضمير اتسع أكثر ودل على الجماعة في ماضيها وحاضرها معاً،ذلك ما أوحت به العلامات (بحر بغير سواحل لا قاع لا عمر لي)؛فكل هذه العلامات تشكل صورة مركبة تصور عمرا طويلا للمتكلم/الجماعة فهي حياة أزلية أبدية حيث ترمز العلامات (بحر بغير سواحل لابدء لي )لذلك،وهي حياة تمتاز بالعمق والامتلاء بالأسرار كما تدل ذلك العلامات:(بحرٌ،لا قاع لي،الجوف)،وعلى الرغم من طول عمر هذه الجماعة ألا أنها لا تزال حية ،نشطة قوية حيث تدل على ذلك الصورة(لكنني في الجوف ينبض)والدال(عنيف).

إرسال التعليق

لقد فاتك